- طاعة الرحمان
- الجنس :
عدد المساهمات : 2261 نقاط التميز : 12240 تاريخ التسجيل : 26/03/2012 العمر : 28 الموقع : منتدى العمارية
غريبة المشاعر....
الخميس 2 أغسطس - 14:29
انتهت المحاضرة وانفض الجميع، جلستُ على حافة سور قصير أدوّن بعض الملاحظات قبل أن تطير من رأسي ويصعب عليّ استرجاعها، كنت أبتسم من هذا التحسّن في ذاكرتي التي أصابها الضعف بعد كثير من الأحداث المأساوية التي عبرت حياتي كنارٍ داهمة صهرت معدني وزادته قوّة عمّا كان عليه..
رأيتُ زميلتي مرام تسير بخُطى مُتثاقلة كأنها تكتهل أثقالا تمنعها الحركة إلا بصعوبة، لقد كانت غائبة لأيام ولا أعتقد السبب خَيْرًا، وإلا لما كانت على هذا الحال.
إنها فتاة صموتة منطوية لا تتحدّث إلى أحد إلا إن اضطرّت لذلك اضطرارا كما المُرغمة.
لم أعتد رؤيتها بكل هذا الضعف والتجهّم لدرجة جعلت الشفقة تتسلل إلى قلبي حتى ملأته عن آخره، لم أتردّد في الاندفاع إليها حين رأيتها تقتعد أحد المقاعد الحجرية ولا أظن الفضول هو السبب، إن هذا الشعور مختلف تماما ولا أدري بم أفسّره، كل همي كان أن اُخفّف عنها.
جالستُها أرمي إلى أذنها بتحيّةٍ مَرحةٍ لطيفة كاللتي عوّدتُ عليها صديقاتي المُقرّبات وقلبي يذوب ذَوْبا بين أضلعي لأنّ مشهدها أعاد إلى مشاعري الكثير من المواقف التي كنت فيها بمثل حالتها البائسة هذه، نظرَتُها البريئة المغرورقة كادت تَسْتَزِل دمعي لولا تماسكْت فما تزال أحدث جراحي طازجة لم يتوقّف نزفها بعد، وهذا ما يجعل قلبي رقيقا أكثر من المطلوب، واهتمامي بآلام الآخرين فيه بعض المُبالغة.
تبسّمتُ لها ابتسامة الأمّ الرؤوم لابنها المُتألّم، وأعتقدها رأت في تقاسيمي من الشفقة ما أشعرها بالضعف لدرجةٍ استزلّت دمعَ عيونها الجميلة الواسعة.
ما أن شددتُ على كتفها وحاولت مواساتها بلمساتٍ حانية حتى فاض بها الكيل وارتمت على صدري تنفجر بالبكاء وعانقتني ناشجة ثمّ صارت تهتف: "لِمَ يحدث معي كل هذا لماذا؟! لم أقترف أيّ سوء في حق أحد، لم أوذ مخلوقا في كل حياتي فلم يكرهونني؟ ولم يؤذونني في كل الآناء ؟!لِمَ لَمْ يُخبروني الحقيقة منذ البداية لماذا؟!"
فاجأني كثيرا تصرُّفها وأثار دهشتي، ترى لِمَ تقول هذا؟ مالذي حصل معها ليجعلها بهذه الحالة المُزرية؟
بذلتُ كلّ جهدي للتخفيف عنها وحاولتُ مواساتها بأرق ما أستطيع ودموعي الغديقة لا تنفكّ عن التدفّق رحمةً بها وشفقةً عليها..
هدأ حالها قليلا فأخذتُها لتغسل وجهها الجميل الشاحب وتشرب بعض الماء ثم عدنا للجلوس، فلمّا ارتاحت قليلا وقد نفّس البكاء بعض كربها أنشأت هامسة بصوتٍ شجيٍّ مُشبعٍ بالأحزان خِلتُ أنه يصدر من قلبها المُثخن بالجراح مرورا بشفتيها المُرتعشتين:
"لا أعلم لم يعتصر الألم قلبي ويُدفق دموع الحُزن من عيني، ألهذا السبب أم لذاك أم للسبب الآخر أم لسواه؛ الأسباب كثيرة مُتعدّدة ولا حصر لها، كلُّ ساعةٍ تَمُرّ من عمري تضيف إليه ألمًا جديدا، خاصة بوجود من كنت طوال ما مر من سنين أظنها أمي الحقيقية وأكِنّ لها الحُبّ والاحترام وأعتبر قسوتها عليّ نابعة من حُبّها لي ورغبتها في أن أكون أفضل البنات تربيةً وأخلاقا وأكثرهنّ خبرةً في أعمال البيت والتعامل مع الناس، على الرغم من أني كنت ألاحظ دائما بأنّ طريقتها معي تُدمّرني وتحرق ذاتي.. وتجعلني أخاف مِن التعامل مع الآخرين وأشعر بأني أقلّ منهم شأنا..
العام الماضي كان عليّ استخراج بعض الوثائق لأجل التسجيلات الجامعيّة، لم يكن أحدٌ غيري في البيت ولكوني مُستعجلة لم أستطيع انتظارأبي ليستخرجها هو كالعادة، فاضطررت للتطفّل على أوراقه لآخذ منها ما يلزمني لما أريد، ملأت الدهشة جوانحي وأنا أرى لديه دفترين عائليين اثنين، ملأ الفضول كياني لأعرف من صاحب الدفتر الثاني، وجدتُ الدفترين كلاهما لأبي شعرت بخوف شديد وكادت تتوقف أنفاسي عن التردّد وصرت أرتعش لمحاولتي تفسير معنى ذلك.. لكني استجمعت أناتي واطلعتُ على كليهما، هذا هو الدفتر الذي فيه إسمي وتاريخ ميلادي، لكني لم أجد فيه أسماء إخوتي، كنت فيه الابنة الوحيدة، إنه الاسم الرسمي لأمي في الوثائق، فهم يُنادونها باسم مُختلفٍ في الحياة اليوميّة..
اطّلعت على الدفتر الثاني، فإذا فيه بقيّة إخوتي.. لكنّ إسم الأم هو نفس الاسم الثاني لأمي والذي ينادونها به..
لم أستطع استيعاب الأمر فعاودت تصفح الأوّل وصعقني أن أقرأ فيه كلمة متوفّاة وأقرأ تاريخ الوفاة، بعد ميلادي بتسعة أشهر، وكان تاريخ الزواج الثاني بعد سنة من ولادتي.. فهِمتُ كُلّ شيء ولم أستطع تحمّل الصّدمة فخررتُ على وجهي مَغشيّا عليّ.
حين أفقت وجدت أبي بالقرب مني كئيب الوجه كسير النّفس وقد علِم بأني اطّلعتُ على السرّ الذي أخفوه عنّي لقرابة عقدين من الزمن، فسّر لي ذلك الكثير من الأشياء..
لم أستطع النبس بكلمة، وأنا أسمع اعتذار أبي إليّ، كلّ ما طلبتُه منه في تلك اللحظة هو أن يُريني صورة أمي الحقيقيّة ، كان يُخبّئ لي صورتين، كم بكيتُ وأنا أراهما، الأولى كانت لها مع أبي وهما عروسان في أوّل زواجهما، أما الثانية فكانت تحوي ثلاثتنا وأنا بين ذراعيها تنظر إليّ والحنان يملأ عينيها ويتدّفق منهما.
طلب مني ألا أريهما أمي الثانية ولم تكن قد عادت بعد فوعدته ذلك وأخذ مني وعدا بألا أخبرها بشيئ مما اطّلعتُ عليه..
رجوته أن يدُلّني على قبر أمي الحقيقية، وأن يُعرّفني أخوالي فأكّد لي بأن ذلك صعبٌ جدا لأنها من دولةٍ ثانية وقد ماتت بها ودُفِنت فيها.. وأكّد لي أنّ من غير المُمكن السفر بي إليها، على الأقل في الوقت الراهن.
بعد فترة وجَدَتْ أمي الثانية عندي إحدى الصورتين فمزّقتها وألقت بها إلى النار ، لقد كانت أمي الحقيقية جميلة جدا، إنه سببٌ وجيه لجعل زوجة أبي تغار منها حيةً وميتة.. وربما كانت تخاف أن يطّلع أحدٌ على حقيقة أنني لستُ ابنتها لذلك فعلت فِعلتها بالصورة الأولى.
لكنها شعرت بأني قد عرفتُ شيئا من الحقيقة، استجوبتني طويلا، ومن شدة حنقي عليها وقهري لما فعلت بصورة أمي بُحت لها بما اكتشفـتُه ، فازدادت مُعاملتها لي سوءا على سوء، وصارت تفتّش أشيائي كلّما سنحت لها الفُرْصة لكني كنت أُخفي عنها الصورة الثانية بحرصٍ شديد وأحملها معي إلى الجامعة، إلى أن غبت عن البيت منذ أيام في زيارة لبعض أقارب أبي وخفت أن تراها عندي بنات عمي وقد كانت صغراهنّ دائما تفتح حقيبة يدي وتعبث بأغراضي فلم أحمل الصورة معي وأخفيتها بين ثيابي في الخزانة، ويا ليتني لم أفعل.
حين ولجت البيت شممت رائحة احتراق، تسابقت إلى رأسي الاحتمالات أسرعت إلى المطبخ فوجدت أن زوجة أبي قد فتّشت ثيابي وعثرت على الصورة الثانية ففعلت بها فعلها بالأولى فزُلزِل كياني زلزالا شديدا ولم أشعُر كيف صرخت، رحتُ أصيح بها أن الصورة لأمي وليست لأمها، وأنها لا تعنيها ولا أدري بم تفوّهتُ أيضا، فقد قطعت آخر خيط يذكّرني أمي التي فقدتُ من قبل أن أعي شيئا من الدنيا..
لقد ضربتني يومها ضربا مُبرِحا كالذي كانت تُشبعني منه في طفولتي إلى أن صرتُ في الصفّ التّاسع، لم يتمكّن إخوتي من إنقاذي من يدها، ولا أدري بأي شيء صلبٍ ضربت رأسي فأفقدتني الوعي، كنت في المشفى حين أفقت وقد أُصبتُ بالانهيار، طلبت مني الصفح أمام والدي فسامحتُها بلساني، لكنّ قلبي لن يُسامحها أبدا حتى لو رأيتها تُحتضر أمام عينيّ.."
أثّرت فيّ مأساتها كثيرا..
حاولتُ مُواساتها، ذكّرتُها بالحديث النبويّ: ((إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم)) فابتسمت لي ابتسامةً غريبة حملت بين طيّاتها الكثير، ربّتت على يدي بلطفٍ شديدٍ وهمست: "لا تملئي رأسك بكلامي فقد كانت مُجرّد فضفضةٍ حتى لا أنفجر أو أرتكب جريمة في حق أيٍّ ممن أساؤو إليّ وإلى أمي لدرجة إلحاقهم الضرر بي، لكني واثقة بأنّ يومهم آتٍ لا محالة، وسأرى ثأري فيهم إن عاجلا أم آجلا، أنا واثقةٌ بذلك" واعتذرت مني مُتأسّفة بابتسامةٍ سَمْحة وانصرفَت شاكرةً لي لطفي معها.
لم أستوعب جيّدا مصدر تلك القوّة التي تخلّلت كلّ شيء فيها حتى صوتها ونظراتها، ربما هي قوّة المظلوم المُحِقّ، كلّ ما تمنّيته هو أن تكون بخير، وأن تنتهي مأساتُها إلى خير.
♥طاعةالرحمان♥
- طاعة الرحمان
- الجنس :
عدد المساهمات : 2261 نقاط التميز : 12240 تاريخ التسجيل : 26/03/2012 العمر : 28 الموقع : منتدى العمارية
رد: غريبة المشاعر....
الجمعة 10 أغسطس - 15:50
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى