- achwak
- الجنس :
عدد المساهمات : 4671 نقاط التميز : 11991 تاريخ التسجيل : 24/03/2011 العمر : 47
(الجزائريون يفشلون مخطط عملية الطائر الأزرق)
الأحد 21 أبريل - 18:23
كل الأمم ساعية الى إبراز مآثرها وبطولاتها ، ذكرا وتدوينا وتلميعا لتحقيق حاجات تخدم مجتمعها ، وشذت أمتنا الجزائرية عن تلك الميزة حتى قيل عنا بأننا (أمة خرساء) وقال عنا مولود قاسم رحمه الله(... أجدادنا قاموا بجلائل الأعمال وعظائم الأفعال ، لكنهم لم يدونوا ما قاموا به ، وتركوه عرضة للتأويل من طرف الخصوم والأنداد ليوجهُوه حسب ما أرادُوا وكيفما شاءوا..) فتاريخُنا بمنجزاته وأفعاله ومآثره صاغه الخصوم والأعداء بدءًا من هيرودت وبروكوب ،مرورا بياقوت الحموي ، وابن عبد ربه والمراكشي والزركلي ، وصولا الى شارل أندري جوليان وأعضاء المدرسة التاريخية الكولونيالية الذين معه ،ولم ينصفنا سوى ابن خلدون في عبره ... فأبناء البلد في سكوت مدقع ، نحن نفعل .. وغيرنا يقول ونحن نصدق ونصفق ....
...مآثر طالها النسيان ...
المتصفح لسجل الزمن ( التاريخ) ،باب الثورة الجزائرية الكبرى يلحظ مدى البروباغندا التي رافقت أحداث الثورة ، فكل شيء قابل للتأويل والتسطيب ، فبعض الأحداث لم تأخذ حقها في التغطية والنشر(عملية الطائر الأزرق 1956) وأخرى ملأت الآفاق بخبرها وصورها في محاولات لتشويه الثورة ( حادثة بني يلمان 1957) ، وهو ما يعني أن تاريخ الثورة أصابه منهج الإنتقاء والأهواء في التدوين والقراءة والكتابة .
اندلاعُ[T1] [T2] ثورة التحرير في غرة نوفمبر 1954 ولًّد هلعًا في المعسكر الكولونيالي ، وكرد فعل عن الثورة جند الإستعمار آليته التدميرية وعبقريته السياسية والعسكرية والسيكولوجية لاخماد الثورة قبل اشتداها وامتدادها ، فعينوا الأكاديمي ( جاك سوستيل[1]) كحاكم عام على الجزائر لعله سيثبط عزائم الثوار ويعيدهم إلى جادة الصواب ، فتوهم الرجلُ خططا ومشاريع سبقت خطط (ديغول ، وشال ) في القضاء على الثورة ، ومن جملة الخطط التي صاغها هذا الأكاديمي هو ( عملية الطائر الأزرق ) المعروفة في أرشيف فرنسا ب: (L'opération «Oiseau bleu )
يبدوا أن تجارب عساكر فرنسا في الفيتنام يجب أن أن تأخذ لها مكانا في التطبيق ضد الشعب الجزائري ، فقد استعان الحاكم العام الفرنسي ( جاك سوستيل ) بخبير اثنولوجي( J .servier ) سبق أن عمل في الفيتنام نسج خيوط عملية خطيرة هدفها القضاء على الثورة بتمزيق مكوناتها البشرية ، أي خلق قوة عميلة من الخونة تعمل لصالح فرنسا ، تُجهز بالأسلحة والذخيرة والمؤن والأموال ، تقيمُ في منطقة جبلية محددة ، تعمل على محاربة مجاهدي الثورة عملا بالقول "من أجل اصطياد ذئاب بلوشستان ،يجب الاستعانة بكلاب بلوشستان"..
... تنفيذ العملية ....
أوكلت مهما تنفيذ عملية (الطائر الأزرق ) لمصالح المخابرات السرية الفرنسية في 1956 ، غير أن التخطيط لها كان خلال النصف الثاني من عام 1955 ، هدفها تكوين جيش من الجزائريين شبيه بجيش التحرير ، يعمل لصالح فرنسا ويؤتمر بأمرها للقضاء على الثورة التي تنامى خطرها واشتد فعلها بأمرة قائد الولاية ( كريم بلقاسم ) [2]ومساعده ( محمدي السعيد [3]) ، لتتحول الولاية الثالثة في منظورهم الى منطقة صراع بين أبنائها.. أتباع جبهة التحرير ، وأتباع الحركة الوطنية الجزائرية (مينا MNA) بقيادة بلونيس المناويء للثورة ، والقوة الجديدة العميلة التي اصطلح على تسميتها ( القوة " ك "، « Force K » ) .
اختيرت المنطقة الممتدة بين (تقزيرت غربا ، وعزازقة شرقا) مسرحا لتكوين هذه ( القوة ك ) ، ولعب المدعو (حاشيش الطاهر[4]) دورا أساسيا في العملية ، فهو الحلقة الأمتن في التواصل ، فقد كلف من طرف المخابرات الفرنسية بتكوين نواة من الجنود المحليين يُجهزون بأسلحة حديثة ، وذخيرة ومؤن، وإغراءات مادية ، قصد القضاء على جماعة (كريم بلقاسم )الثورية التي سيطرت على الموقف هناك في الولاية الثالثة التاريخية منذ اندلاع الثورة في 1954.
عاد (حشيش [محند] الطاهر) إلى عزازقة لتنفيذ المهمة الموكلة اليه ، اتصل بصاحب مطعم كان يتردد عليه غالبا هو ( زيداد أحمد[5]) ،وأعلمه تدريجيا في رغبته في تكوين ( جيش سري) من رجال المنطقة ، يتكفلون بالقضاء على الخارجين على القانون من أتباع الأفلان الذين يقتلون النساء والأطفال ويجدعون الأنوف حسب زعمه ، يتحركون ليلا ويقيمون في الغابات مثلهم مثل جيش التحرير ، وكان الإتفاق المبدئي بين الرجلين يقضي بتجنيد 15 عنصرا اقترحهم (زيداد) زودوا بالسلاح والذخيرة والمؤن والمال ، وصلته عن طريق شاحنة كولونيالية لتوزيع الجرائد، وكان ذلك ايذانا ببداية عملية ( الطائر الأزرق )، وقد توسعت قائمة الفاعلين في العملية لصالح الجبهة لتشمل (مهلل السعيد ) و(عمر تومي) و(ومخلوف سعيد ) وغيرهم من الذين وجهوا (القوة ك) بفضل نضالهم ووطنيتهم الوجهة الثورية المؤمولة رغم خطورة المهمة .
..قيادة الولاية الثالثة على علم بعملية ( الطائر الأزرق ) .
خيوط المؤامرة السرية وصل خبرها سريعا إلى قائد الولاية الثالثة (كريم بلقاسم) الذي أمر التعامل معها بحيطة وحذر ولسان حاله يردد خطاب سلفه أيام فتح الأندلس ( ...وليس لكم والله من السلاح والمؤن إلا ما تؤخذونه من عدوكم ....) ،وكلف ( سي السعيد فريروش) [6] الذي اسمه الحقيقي (محند أمزيان ايزوران ) بفك خيوط العملية ومتابعتها والإنخراط فيها مع شخص ثوري ثالث يدعى ( مهلل السعيد) ، وقد تقمص الثلاثة دور المتعاون مع الإستعمار وتحصلوا على 1200 قطعة سلاح ضمنها 250 قطعة كبيرة وكمية من المال قدرت ب300.000 فرنك ، لتجنيد المزيد من الرجال لخلق قوة ثالثة غرضها زرع فتنة بين أبناء المنطقة يتقاتلون فيما بينهم ليخلو الجو فيما بعدها للقوات الفرنسية في السيطرة على المنطقة برمتها .
لعب الأشخاص المذكورون لعبة مزدوجة ، فهم متعاونون(عملاء) مع فرنسا من جهة ، ومنصاعون لأوامر قيادة جيش التحرير بقياد الكولونيل ( كريم بلقاسم )، فكان المجندون في (القوة ك ) هم نفسهم جنود جيش التحرير ؟ وهو ما يعرف في قاموس الحروب ( بالجوسسة والجوسسة المضادة ) وتمويها للعملية فإن الثوار كثيرا ما يطلقون طلقات نارية في الليل يُسمع صداها بعيدا من قبل الفرنسيين ، لإيهامهم بأن المعارك قائمة بين (جيش التحرير)من جهة و(القوة ك ) من جهة ثانية ، ويتركون تمويها ضحايا خونة بدون هوية من فصيل بلونيس أو من الخونة ، باعتبارهم جنود قضت عليهم جماعة (القوة ك ) العميلة لفرنسا إسميا وسريا، لكنها فعليا تابعة لجيش التحرير الوطني ، وكلما توفرت الفرصة إلا وطالبوا بالمزيد من السلاح والمال والمؤن ، فبعد حفل ( شواء ) في الطبيعة حضره الجنرال (olie ) بتا ريخ 16 سبتمبر 1956 تم تسليم 850 قطعة سلاح متنوعة للمجموعة ومناظر لتقريب الرؤية و84 مليون فرنك فرنسي ، وقد شارك الجيش الفرنسي نفسه (15e BCA) في عمليات وهمية خططت لها ( القوة ك) في أفريل 1956 ، ففي الأسبوع الأول اتضح لهم مدى حسن بلاء هذه المجموعة بعد اكتشاف جثث لجنود تم تصفيتهم ، غير أن الجثث لتعفنها وغياب أوراق الهوية التي ثثبت أنتماءها ولد شكوكا ؟ ، ومهما يكن فإن قبائل (القوة ك) أدوا عملا جيدا ، وهو ما سيسمحُ بدعمهم بمزيد من السلاح ومستلزمات الحرب لتحقيق المزيد من النصر ضد جيش التحرير، وقد ارتفع عدد هذه القوة تدريجيا بموافقة كريم بلقاسم حتى أصبح عدد جنودها 1500 مجاهد مجهزين بأكمل المستلزمات الحربية التي وردت من العدو الفرنسي في إطار تطبيق ( عملية الطائر الأزرق) .
وصل انفاقُ الحاكم العام الفرنسي في عهد جاك سوستيل وخلفه على عملية الطائر الأزرق حسب ( ايف كوريي ) 9 ملايين عن كل شهر ، وهو مبلغ ضخم بتقدير ذلك الوقت .
.. هل المخابرات الفرنسية أصابها العقم ؟....
شكوك راودت المخابرات الفرنسية بشأن العملية ، فقد أشار ايف كوريي [7]، بأن المظلي الكابتان ( HENTIC) وهو من قدماء المحاربين في الفيتنام ، والإثنولوجي ( j . servier [8])راودتهما شكوك حول مدى إخلاص هذا التنظيم ، ومرد ذلك أن الكثير ممن جندوا ليسوا من أبناء الدوار ( ايفلسن ) ، ولو يصب أحد منهم بمكروه ، وأن القتلى في غالبهم هم من فصيل بلونيس (mna )أو من المتعاونين مع فرنسا ( الشنابط)، وأن التنظيم له شراهة في طلب المزيد من السلاح والعتاد الحربي، هذه الملاحظات تطلبت توقيف الدعم لهذة القوة مع إجراء تحقيق لمعرفة الحقيقة ، لهذا تم ارسال قوة من ( الكومندوس) بقياد ( capitaine Hentic) اتخذت من بلدة ( تقزيرت ) مقرا لها لمتابعة وتقييم نشاط ( القوة ك ) عن قرب ،ومن خلال اشتباك الكومندوس الفرنسي المتكرر مع المسلحين في الجبل ومراقبة من قُبض عليه ، اتضح أن (القوة ك ) قد تكون مشبوهة غير أن تعقيدات الوضع وتشعبات المكان وتداخل الأطراف صعب مؤمورية فك الألغاز المحيطة بعملية ( الطائر الأزرق ) وقد تفطن الجيش الفرنسي إلى الإنقلاب الذي وقع ، فأرسل في أواخر ( أوت56) تعزيزات عسكرية ممثلة في الكتيبة 151 التي وقعت في كمين نصبته (القوة ك) راح ضحيته أزيد من 35 جنديا فرنسيا ، وطالبت ( القوة ك) مزيدا من الدعم للقضاء على (الفلاقة ) قصد انتزاع أكبر عتاد من القوات الفرنسية فأُرسلت الكتيبة 15 لمشاة الجبل ( bataillon de chasseurs alpins15 )التي تُعد من أقدم وأحسن الكتائب الفرنسية المقاتلة ، ففقدت في معركة وهمية 50 جنديا من طاقمها، هاتان العمليتان الأخيرتان ضد كتيبة المشاة 151 و ضد الكتيبة 15 لمشاة الجبل سهلتا ادماج ( القوة ك) رسميا في جيش التحرير الوطني بأمر من مؤتمر الصومام .
رد الفعل الفرنسي :
اكتشافُ خيوط اللعبة من قبل الفرنسيين كان متأخرا وإن احاطتها شكوك ، وبانكشافها وعلنها، أرسل قائد الولاية الثالثة رسالة خطية للحاكم العام الفرنسي أنذاك ( ربير لا كوست ) قائلا فيها :
« Monsieur le Ministre,
Vous avez cru introduire, avec la « Force K ». un cheval de Troie au sein de la résistance algérienne. Vous vous êtes trompé. Ceux que vous avez pris pour des traîtres à la patrie algérienne étaient de purs patriotes qui n'ont jamais cessé de lutter pour l'indépendance de leur pays et contre le colonialisme. Nous vous remercions de nous avoir procuré des armes qui nous serviront à libérer notre pays. »
"السيد الوزير ،
ظننتم بأن خلق وتسريب ( القوة ك) هو عبارة عن حصان طروادة في كنف المقاومة الجزائرية، أنتم مخدوعون .... الذين كنتم تظنونهم خونة للوطن الجزائري ، هم في حقيقتهم مناضلون أوفياء لوطنهم ، لم ولن يتوقف نضالهم من أجل استقلال بلادهم ، وهم ضد الإستعمار ، نحن نشكركم على دعمنا بالسلاح الذي نستخدمه لتحرير بلدنا ."
وكرد فعل ، جهزت فرنسا ترسانتها العسكرية ضد منطقة القبائل ، عبر ( عملية جناد) شارك فيها 10 الآف جندي فرنسي من مختلف التخصصات قصد رأب الصدع وتقليل الخسائر ، غير أن الأمر قد فُوت عليها ، فلم تحقق ( عملية جناد) سوى الفتات ، فأصيبت فرنسا الإستعمارية بضربة قاصمة في أجهزتها الإستخباراتية ، حيث تبين مدى هشاشتها وسهولة اختراقها ، وستعمل لا حقا على الإنتقام من منطقة القبائل عبر عملية خطيرة تعرف بعملية ( الزرق) ("bleuite" opération)، راح ضحيتها المئات من الجزائريين .
.....عملية الطائر الأزرق في الميزان .
....عمل الفرنسيون منذ أن وطأت أقدامهم أرض الجزائر على ايجاد متعاونين لهم لتمزيق الصفوف ، فهم يدركون قيمة ( فرق تسُد) في تحقيق منافعهم ، فأسسوا نظام البلديات المختلطة والتنظيمات من (الباشاغوات) و(القياد) و(السبايس) و( الزواف) و( الحركى) و(جيش بلونيس)(وعملية الزرق) ، فكل السبل اخترعوها لخلق مدرسة من الموالين لهم ، ولا زالت الشطحات العبقرية الفرنسية قائمة ، لكنها تنتهي دائما بالفشل ، حتى قيل عن فرنسا ( أنها تلميذ غبي).
....أثبتت (عملية الطائر الأزرق) أن منطقة القبائل مستهدفة لخصوصيتها الثقافية واللسانية ، وأثبت سكانها حسا وطنيا وتمسكا بوحدة بلادهم لا يشك فيها إلا مقارع أومنافق ، قد يقول قائل بأن ( حركة الماك لصاحبها فرحات مهني( هي استنساخ ) لعملية الطائر الأزرق( القول الصحيح أن حركة الماك ما هي إلا صرخة في واد قد يكون هدفها الحقيقي هو توظيف السياسة في تحقيق مطالب هوايتية مشروعة لا غير.
.....عملية (الطائر الأزرق ) أنذرت غلاة الإستعمار بأن الإنسان الجزائري لا يشترى في قضاياه الوطنية ، فهو ينتمي لشعب عرف عنه منذ القدم الشهامة والشجاعة والإقدام في مواجهة المخاطر حتى وصف في التاريخ (بالأمة المقاتلة ).
.....افشال ( عملية الطائر الأزرق) هو انتكاسة حقيقية للجيش الفرنسي بمخابراته ، فهم حاولوا غلق ملفها سريعا ، ولم يكتبوا عنها إلا النزر القليل ، وواجب الجزائريين الإطلاع على الأرشيف المنهوب المُخزن في دهاليز ( سانت انبروفانس) لمعرفة خفايا تاريخنا الذي بدأت تتضح معالمه قليلا لوجود الوثيقة المكتوبة .
....واجبنا ككتاب وقراء هو التعريف مآثرنا وأمجادنا وبطولاتنا ابان حرب التحرير الكبرى ، وما هذه العملية سوى نقطة في بحر ، ولعل في جُهد ( رزيقة مقراني) بفلمها الوثائقي عن أحداث هذه العملية وأبعادها ، هو ما سينيرُ نقاط الظل فيها خاصة وأن كوكبة من المؤرخين ساهموا بآرائهم فبها .
.....من حقنا كجزائريين الإفتخار بعبقرية المواطن الجزائري في افشال المخططات الإستعمارية ، فرغم بساطة الإمكانات وضعف مستوى التعليم آنذاك، إلا أن البصيرة وحب الوطن حققا المستحيلات وأرعب قوى الشر الإستعمارية ، إذ بعد حادثة (عملية الطائر الأزرق ) المشرفة لصالح المخابرات السرية الجزائرية بقدرتها الطبيعية في قلب موازين القوة لصالحها، فقد كان التوجه سريعا نحو تأسيس نواة مدرسة استخباراتية جزائرية ، أثمرت بتكوين وتخرج 72 عنصرا ، شكلوا فيما بعد مجموعة قدماء المخابرات ، والتي أصبحت تُعرف حاليا بمديرية الإستخبارات والأمن ( DRS) . وهي الإستخبارات ذاتها التي أعدمت ( كريم بلقاسم) بفارانكفورت الألمانية بواسطة ربطة عنقه بتاريخ :18 أكتوبر 1970.
مفصل القول أن الجزائري لا يُساوم في وطنيته ، سريع الحساسية لكل خطر يهدد وحدة بلاده وشعبه ،وما وقع ذات شهور في منطقة القبائل من عام 1956 تحت يافطة (عملية الطائر الأزرق) أثبت بأن منطقة القبائل المستهدفة دائما في " دينها ووطنيتها " هي أكثر المناطق قدرة على فهم أعداء الوطن بتلونهم وكثرة وسائلهم وتعدد ايديولوجياتهم .
...مآثر طالها النسيان ...
المتصفح لسجل الزمن ( التاريخ) ،باب الثورة الجزائرية الكبرى يلحظ مدى البروباغندا التي رافقت أحداث الثورة ، فكل شيء قابل للتأويل والتسطيب ، فبعض الأحداث لم تأخذ حقها في التغطية والنشر(عملية الطائر الأزرق 1956) وأخرى ملأت الآفاق بخبرها وصورها في محاولات لتشويه الثورة ( حادثة بني يلمان 1957) ، وهو ما يعني أن تاريخ الثورة أصابه منهج الإنتقاء والأهواء في التدوين والقراءة والكتابة .
اندلاعُ[T1] [T2] ثورة التحرير في غرة نوفمبر 1954 ولًّد هلعًا في المعسكر الكولونيالي ، وكرد فعل عن الثورة جند الإستعمار آليته التدميرية وعبقريته السياسية والعسكرية والسيكولوجية لاخماد الثورة قبل اشتداها وامتدادها ، فعينوا الأكاديمي ( جاك سوستيل[1]) كحاكم عام على الجزائر لعله سيثبط عزائم الثوار ويعيدهم إلى جادة الصواب ، فتوهم الرجلُ خططا ومشاريع سبقت خطط (ديغول ، وشال ) في القضاء على الثورة ، ومن جملة الخطط التي صاغها هذا الأكاديمي هو ( عملية الطائر الأزرق ) المعروفة في أرشيف فرنسا ب: (L'opération «Oiseau bleu )
يبدوا أن تجارب عساكر فرنسا في الفيتنام يجب أن أن تأخذ لها مكانا في التطبيق ضد الشعب الجزائري ، فقد استعان الحاكم العام الفرنسي ( جاك سوستيل ) بخبير اثنولوجي( J .servier ) سبق أن عمل في الفيتنام نسج خيوط عملية خطيرة هدفها القضاء على الثورة بتمزيق مكوناتها البشرية ، أي خلق قوة عميلة من الخونة تعمل لصالح فرنسا ، تُجهز بالأسلحة والذخيرة والمؤن والأموال ، تقيمُ في منطقة جبلية محددة ، تعمل على محاربة مجاهدي الثورة عملا بالقول "من أجل اصطياد ذئاب بلوشستان ،يجب الاستعانة بكلاب بلوشستان"..
... تنفيذ العملية ....
أوكلت مهما تنفيذ عملية (الطائر الأزرق ) لمصالح المخابرات السرية الفرنسية في 1956 ، غير أن التخطيط لها كان خلال النصف الثاني من عام 1955 ، هدفها تكوين جيش من الجزائريين شبيه بجيش التحرير ، يعمل لصالح فرنسا ويؤتمر بأمرها للقضاء على الثورة التي تنامى خطرها واشتد فعلها بأمرة قائد الولاية ( كريم بلقاسم ) [2]ومساعده ( محمدي السعيد [3]) ، لتتحول الولاية الثالثة في منظورهم الى منطقة صراع بين أبنائها.. أتباع جبهة التحرير ، وأتباع الحركة الوطنية الجزائرية (مينا MNA) بقيادة بلونيس المناويء للثورة ، والقوة الجديدة العميلة التي اصطلح على تسميتها ( القوة " ك "، « Force K » ) .
اختيرت المنطقة الممتدة بين (تقزيرت غربا ، وعزازقة شرقا) مسرحا لتكوين هذه ( القوة ك ) ، ولعب المدعو (حاشيش الطاهر[4]) دورا أساسيا في العملية ، فهو الحلقة الأمتن في التواصل ، فقد كلف من طرف المخابرات الفرنسية بتكوين نواة من الجنود المحليين يُجهزون بأسلحة حديثة ، وذخيرة ومؤن، وإغراءات مادية ، قصد القضاء على جماعة (كريم بلقاسم )الثورية التي سيطرت على الموقف هناك في الولاية الثالثة التاريخية منذ اندلاع الثورة في 1954.
عاد (حشيش [محند] الطاهر) إلى عزازقة لتنفيذ المهمة الموكلة اليه ، اتصل بصاحب مطعم كان يتردد عليه غالبا هو ( زيداد أحمد[5]) ،وأعلمه تدريجيا في رغبته في تكوين ( جيش سري) من رجال المنطقة ، يتكفلون بالقضاء على الخارجين على القانون من أتباع الأفلان الذين يقتلون النساء والأطفال ويجدعون الأنوف حسب زعمه ، يتحركون ليلا ويقيمون في الغابات مثلهم مثل جيش التحرير ، وكان الإتفاق المبدئي بين الرجلين يقضي بتجنيد 15 عنصرا اقترحهم (زيداد) زودوا بالسلاح والذخيرة والمؤن والمال ، وصلته عن طريق شاحنة كولونيالية لتوزيع الجرائد، وكان ذلك ايذانا ببداية عملية ( الطائر الأزرق )، وقد توسعت قائمة الفاعلين في العملية لصالح الجبهة لتشمل (مهلل السعيد ) و(عمر تومي) و(ومخلوف سعيد ) وغيرهم من الذين وجهوا (القوة ك) بفضل نضالهم ووطنيتهم الوجهة الثورية المؤمولة رغم خطورة المهمة .
..قيادة الولاية الثالثة على علم بعملية ( الطائر الأزرق ) .
خيوط المؤامرة السرية وصل خبرها سريعا إلى قائد الولاية الثالثة (كريم بلقاسم) الذي أمر التعامل معها بحيطة وحذر ولسان حاله يردد خطاب سلفه أيام فتح الأندلس ( ...وليس لكم والله من السلاح والمؤن إلا ما تؤخذونه من عدوكم ....) ،وكلف ( سي السعيد فريروش) [6] الذي اسمه الحقيقي (محند أمزيان ايزوران ) بفك خيوط العملية ومتابعتها والإنخراط فيها مع شخص ثوري ثالث يدعى ( مهلل السعيد) ، وقد تقمص الثلاثة دور المتعاون مع الإستعمار وتحصلوا على 1200 قطعة سلاح ضمنها 250 قطعة كبيرة وكمية من المال قدرت ب300.000 فرنك ، لتجنيد المزيد من الرجال لخلق قوة ثالثة غرضها زرع فتنة بين أبناء المنطقة يتقاتلون فيما بينهم ليخلو الجو فيما بعدها للقوات الفرنسية في السيطرة على المنطقة برمتها .
لعب الأشخاص المذكورون لعبة مزدوجة ، فهم متعاونون(عملاء) مع فرنسا من جهة ، ومنصاعون لأوامر قيادة جيش التحرير بقياد الكولونيل ( كريم بلقاسم )، فكان المجندون في (القوة ك ) هم نفسهم جنود جيش التحرير ؟ وهو ما يعرف في قاموس الحروب ( بالجوسسة والجوسسة المضادة ) وتمويها للعملية فإن الثوار كثيرا ما يطلقون طلقات نارية في الليل يُسمع صداها بعيدا من قبل الفرنسيين ، لإيهامهم بأن المعارك قائمة بين (جيش التحرير)من جهة و(القوة ك ) من جهة ثانية ، ويتركون تمويها ضحايا خونة بدون هوية من فصيل بلونيس أو من الخونة ، باعتبارهم جنود قضت عليهم جماعة (القوة ك ) العميلة لفرنسا إسميا وسريا، لكنها فعليا تابعة لجيش التحرير الوطني ، وكلما توفرت الفرصة إلا وطالبوا بالمزيد من السلاح والمال والمؤن ، فبعد حفل ( شواء ) في الطبيعة حضره الجنرال (olie ) بتا ريخ 16 سبتمبر 1956 تم تسليم 850 قطعة سلاح متنوعة للمجموعة ومناظر لتقريب الرؤية و84 مليون فرنك فرنسي ، وقد شارك الجيش الفرنسي نفسه (15e BCA) في عمليات وهمية خططت لها ( القوة ك) في أفريل 1956 ، ففي الأسبوع الأول اتضح لهم مدى حسن بلاء هذه المجموعة بعد اكتشاف جثث لجنود تم تصفيتهم ، غير أن الجثث لتعفنها وغياب أوراق الهوية التي ثثبت أنتماءها ولد شكوكا ؟ ، ومهما يكن فإن قبائل (القوة ك) أدوا عملا جيدا ، وهو ما سيسمحُ بدعمهم بمزيد من السلاح ومستلزمات الحرب لتحقيق المزيد من النصر ضد جيش التحرير، وقد ارتفع عدد هذه القوة تدريجيا بموافقة كريم بلقاسم حتى أصبح عدد جنودها 1500 مجاهد مجهزين بأكمل المستلزمات الحربية التي وردت من العدو الفرنسي في إطار تطبيق ( عملية الطائر الأزرق) .
وصل انفاقُ الحاكم العام الفرنسي في عهد جاك سوستيل وخلفه على عملية الطائر الأزرق حسب ( ايف كوريي ) 9 ملايين عن كل شهر ، وهو مبلغ ضخم بتقدير ذلك الوقت .
.. هل المخابرات الفرنسية أصابها العقم ؟....
شكوك راودت المخابرات الفرنسية بشأن العملية ، فقد أشار ايف كوريي [7]، بأن المظلي الكابتان ( HENTIC) وهو من قدماء المحاربين في الفيتنام ، والإثنولوجي ( j . servier [8])راودتهما شكوك حول مدى إخلاص هذا التنظيم ، ومرد ذلك أن الكثير ممن جندوا ليسوا من أبناء الدوار ( ايفلسن ) ، ولو يصب أحد منهم بمكروه ، وأن القتلى في غالبهم هم من فصيل بلونيس (mna )أو من المتعاونين مع فرنسا ( الشنابط)، وأن التنظيم له شراهة في طلب المزيد من السلاح والعتاد الحربي، هذه الملاحظات تطلبت توقيف الدعم لهذة القوة مع إجراء تحقيق لمعرفة الحقيقة ، لهذا تم ارسال قوة من ( الكومندوس) بقياد ( capitaine Hentic) اتخذت من بلدة ( تقزيرت ) مقرا لها لمتابعة وتقييم نشاط ( القوة ك ) عن قرب ،ومن خلال اشتباك الكومندوس الفرنسي المتكرر مع المسلحين في الجبل ومراقبة من قُبض عليه ، اتضح أن (القوة ك ) قد تكون مشبوهة غير أن تعقيدات الوضع وتشعبات المكان وتداخل الأطراف صعب مؤمورية فك الألغاز المحيطة بعملية ( الطائر الأزرق ) وقد تفطن الجيش الفرنسي إلى الإنقلاب الذي وقع ، فأرسل في أواخر ( أوت56) تعزيزات عسكرية ممثلة في الكتيبة 151 التي وقعت في كمين نصبته (القوة ك) راح ضحيته أزيد من 35 جنديا فرنسيا ، وطالبت ( القوة ك) مزيدا من الدعم للقضاء على (الفلاقة ) قصد انتزاع أكبر عتاد من القوات الفرنسية فأُرسلت الكتيبة 15 لمشاة الجبل ( bataillon de chasseurs alpins15 )التي تُعد من أقدم وأحسن الكتائب الفرنسية المقاتلة ، ففقدت في معركة وهمية 50 جنديا من طاقمها، هاتان العمليتان الأخيرتان ضد كتيبة المشاة 151 و ضد الكتيبة 15 لمشاة الجبل سهلتا ادماج ( القوة ك) رسميا في جيش التحرير الوطني بأمر من مؤتمر الصومام .
رد الفعل الفرنسي :
اكتشافُ خيوط اللعبة من قبل الفرنسيين كان متأخرا وإن احاطتها شكوك ، وبانكشافها وعلنها، أرسل قائد الولاية الثالثة رسالة خطية للحاكم العام الفرنسي أنذاك ( ربير لا كوست ) قائلا فيها :
« Monsieur le Ministre,
Vous avez cru introduire, avec la « Force K ». un cheval de Troie au sein de la résistance algérienne. Vous vous êtes trompé. Ceux que vous avez pris pour des traîtres à la patrie algérienne étaient de purs patriotes qui n'ont jamais cessé de lutter pour l'indépendance de leur pays et contre le colonialisme. Nous vous remercions de nous avoir procuré des armes qui nous serviront à libérer notre pays. »
"السيد الوزير ،
ظننتم بأن خلق وتسريب ( القوة ك) هو عبارة عن حصان طروادة في كنف المقاومة الجزائرية، أنتم مخدوعون .... الذين كنتم تظنونهم خونة للوطن الجزائري ، هم في حقيقتهم مناضلون أوفياء لوطنهم ، لم ولن يتوقف نضالهم من أجل استقلال بلادهم ، وهم ضد الإستعمار ، نحن نشكركم على دعمنا بالسلاح الذي نستخدمه لتحرير بلدنا ."
وكرد فعل ، جهزت فرنسا ترسانتها العسكرية ضد منطقة القبائل ، عبر ( عملية جناد) شارك فيها 10 الآف جندي فرنسي من مختلف التخصصات قصد رأب الصدع وتقليل الخسائر ، غير أن الأمر قد فُوت عليها ، فلم تحقق ( عملية جناد) سوى الفتات ، فأصيبت فرنسا الإستعمارية بضربة قاصمة في أجهزتها الإستخباراتية ، حيث تبين مدى هشاشتها وسهولة اختراقها ، وستعمل لا حقا على الإنتقام من منطقة القبائل عبر عملية خطيرة تعرف بعملية ( الزرق) ("bleuite" opération)، راح ضحيتها المئات من الجزائريين .
.....عملية الطائر الأزرق في الميزان .
....عمل الفرنسيون منذ أن وطأت أقدامهم أرض الجزائر على ايجاد متعاونين لهم لتمزيق الصفوف ، فهم يدركون قيمة ( فرق تسُد) في تحقيق منافعهم ، فأسسوا نظام البلديات المختلطة والتنظيمات من (الباشاغوات) و(القياد) و(السبايس) و( الزواف) و( الحركى) و(جيش بلونيس)(وعملية الزرق) ، فكل السبل اخترعوها لخلق مدرسة من الموالين لهم ، ولا زالت الشطحات العبقرية الفرنسية قائمة ، لكنها تنتهي دائما بالفشل ، حتى قيل عن فرنسا ( أنها تلميذ غبي).
....أثبتت (عملية الطائر الأزرق) أن منطقة القبائل مستهدفة لخصوصيتها الثقافية واللسانية ، وأثبت سكانها حسا وطنيا وتمسكا بوحدة بلادهم لا يشك فيها إلا مقارع أومنافق ، قد يقول قائل بأن ( حركة الماك لصاحبها فرحات مهني( هي استنساخ ) لعملية الطائر الأزرق( القول الصحيح أن حركة الماك ما هي إلا صرخة في واد قد يكون هدفها الحقيقي هو توظيف السياسة في تحقيق مطالب هوايتية مشروعة لا غير.
.....عملية (الطائر الأزرق ) أنذرت غلاة الإستعمار بأن الإنسان الجزائري لا يشترى في قضاياه الوطنية ، فهو ينتمي لشعب عرف عنه منذ القدم الشهامة والشجاعة والإقدام في مواجهة المخاطر حتى وصف في التاريخ (بالأمة المقاتلة ).
.....افشال ( عملية الطائر الأزرق) هو انتكاسة حقيقية للجيش الفرنسي بمخابراته ، فهم حاولوا غلق ملفها سريعا ، ولم يكتبوا عنها إلا النزر القليل ، وواجب الجزائريين الإطلاع على الأرشيف المنهوب المُخزن في دهاليز ( سانت انبروفانس) لمعرفة خفايا تاريخنا الذي بدأت تتضح معالمه قليلا لوجود الوثيقة المكتوبة .
....واجبنا ككتاب وقراء هو التعريف مآثرنا وأمجادنا وبطولاتنا ابان حرب التحرير الكبرى ، وما هذه العملية سوى نقطة في بحر ، ولعل في جُهد ( رزيقة مقراني) بفلمها الوثائقي عن أحداث هذه العملية وأبعادها ، هو ما سينيرُ نقاط الظل فيها خاصة وأن كوكبة من المؤرخين ساهموا بآرائهم فبها .
.....من حقنا كجزائريين الإفتخار بعبقرية المواطن الجزائري في افشال المخططات الإستعمارية ، فرغم بساطة الإمكانات وضعف مستوى التعليم آنذاك، إلا أن البصيرة وحب الوطن حققا المستحيلات وأرعب قوى الشر الإستعمارية ، إذ بعد حادثة (عملية الطائر الأزرق ) المشرفة لصالح المخابرات السرية الجزائرية بقدرتها الطبيعية في قلب موازين القوة لصالحها، فقد كان التوجه سريعا نحو تأسيس نواة مدرسة استخباراتية جزائرية ، أثمرت بتكوين وتخرج 72 عنصرا ، شكلوا فيما بعد مجموعة قدماء المخابرات ، والتي أصبحت تُعرف حاليا بمديرية الإستخبارات والأمن ( DRS) . وهي الإستخبارات ذاتها التي أعدمت ( كريم بلقاسم) بفارانكفورت الألمانية بواسطة ربطة عنقه بتاريخ :18 أكتوبر 1970.
مفصل القول أن الجزائري لا يُساوم في وطنيته ، سريع الحساسية لكل خطر يهدد وحدة بلاده وشعبه ،وما وقع ذات شهور في منطقة القبائل من عام 1956 تحت يافطة (عملية الطائر الأزرق) أثبت بأن منطقة القبائل المستهدفة دائما في " دينها ووطنيتها " هي أكثر المناطق قدرة على فهم أعداء الوطن بتلونهم وكثرة وسائلهم وتعدد ايديولوجياتهم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى