- achwak
- الجنس :
عدد المساهمات : 4671 نقاط التميز : 11994 تاريخ التسجيل : 24/03/2011 العمر : 47
بين البطل والصنم شعرة..
الأحد 21 أبريل - 19:13
يعشق الناس البطولة ويبحثون عن رموز يلتفون حولها وتكون ممثلاً لهم فيختارون هذه الرموز من بين شخصيات كان لها دور متميز في خدمة الوطن أو من بين قادتهم وزعمائهم..
ليس من مشكلة في أن يعرف الناس الفضل لأهله، لكن حين يبالَغُ في الحديث عن احترام الرموز والقادة وإجلالهم وإنزالهم منزلةً خاصةً فإنه يُخشى أن ينسى الناس أنهم بشر مثلهم يخطئون ويصيبون، وأن يؤدي التعلق بهم إلى التوقف عندهم وعدم تجاوزهم لرؤية غيرهم ممن كان لهم فضلهم ومساهمتهم كذلك فنحرم أنفسنا من الاستفادة من الأفكار الجيدة للآخرين، بينما نتورط في أفكار خاطئة لأن مصدرها هو ذلك البطل الملهم الذي ظننا أنه لا ينطق إلا حكمةً وصواباً..
حرص مالك بن نبي رحمه الله على إزالة اللبس ففرق بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار المجردة وقال إن تقديس الأشخاص مهما علت مكانتهم ومهما سمت منزلتهم هو نوع من الوثنية البدائية، وبيَّن العلاقة العكسية بين الصنم والفكرة فقال حين يبزغ الصنم تنطفئ الفكرة.
تقوم فكرة البطولة باختصار على الإشادة بإنجازات البطل غير العادية وأفعاله التي تفوق قدرات البشر وخطاباته التاريخية فهو حالة استثنائية لا يجود الزمان بمثلها وهو قائد المرحلة بلا منازع وزعيم أسطورة فتؤدي المبالغة في الحديث عن مزاياه إلى إحاطته بهالة من التعظيم والتفخيم مما يضعنا على أولى خطوات إخراجه من دائرة البشرية ورفعه إلى مرتبة التقديس..
يقاوم القرآن مبكراً بذور الصنمية فبينما يركز البشر في نظرتهم إلى البطل على الجانب "فوق البشري" في شخصيته فإن القرآن يحرص على إبراز الجانب البشري مع ضعفه ونقصه في شخصية الأنبياء والعباد الصالحين حتى لا ينحرف البشر ويغالون فينتهي بهم الأمر إلى عبادتهم، فصورة الأنبياء والصالحين في القرآن هي أنهم بشر مثلنا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً من أهل القرى"، "كانا يأكلان الطعام"، وكل ما يميزهم عن غيرهم من البشر هو أن هداهم الله ومنَّ عليهم.
إن خطورة الصنمية أنها تبدأ بدايات بسيطة لا يتنبه الناس لخطورتها ثم تتفاقم جيلاً بعد جيل حتى تبلغ حالة الإشراك الكامل فيتخذون من هؤلاء الأبطال آلهةً من دون الله.
يقول المفسرون حول الأصنام التي ذكرت في سورة نوح "وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً" التي كان قوم نوح يعبدونها من دون الله ويحاربون دعوة نبيهم في سبيلها إن هذه الأسماء هي في الأصل لرجال صالحين أحبهم الناس لصلاحهم ثم غالوا في حبهم وإجلالهم ونصبوا لهم التماثيل لتكريمهم ثم مع طول العهد أخرج الناس هؤلاء الرجال الصالحين من مرتبة البشرية إلى مرتبة الآلهة فعبدوهم من دون الله.
هكذا تبدأ الصنمية في حياتنا من مدخل الاحترام والتبجيل فبحجة إنزال الناس منازلهم ومعرفة الفضل لأهل الفضل يمنح القادة ميزات خاصةً ويسمع لهم ويطاعون دون مناقشة، وتسمى الشوارع والمؤسسات باسمهم، ويطرى على مكرماتهم وهباتهم، وتوضع صورهم في الشوارع والمقرات الحكومية وتنحت لهم التماثيل وتفرد المساحات الواسعة في الإعلام لتغطية نشاطاتهم، ويتحرج من ذكر اسم الزعيم إلا مسبوقاً بألقاب الفخامة والجلالة والسيادة والرفعة وتغلق الطرقات حين يمر موكبه ويحال بين الناس وبين الاقتراب منه ومخالطته ويجبرون على التقيد ببروتوكول الوقوف والانحناء عند مروره وتعظيم السلام له وتشرع قوانين تجرم نقده أو المس بذاته كل هذه المظاهر وغيرها تدخل المجتمعات في ظلمات الصنمية والفرعونية وتعطل حركة الفكر والإبداع فيها.
لكن البطل بحق هو من يرفض هالات التفخيم والتعظيم ولا ينخدع عن حقيقة نفسه فيصدق أنه القائد الأسطورة والزعيم الضرورة الذي لم يجد الزمان بمثله، بل إنه يحرص على إبقاء تعلق الناس بالفكرة والمبدأ وليس بشخصه..تأملوا المعنى العميق لهذه الآية: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ"..
إن عبادة أشخاص الأنبياء والصالحين يأتي دائماً مخالفاً لرغباتهم، لذا فإنهم يتبرءون منهم يوم القيامة "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم"..وحين يربط القائد الناس بالمبدأ لا بشخصه الفانية فإنه يضمن بقاء المبدأ بعد موته..
لقد جسد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة على تحررهم من الصنمية، فمع شدة حبه للنبي محمد وقف أبوبكر بعد موته ليخاطب الناس قائلاً "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات".
إن مقياس تحرر المجتمعات من العبودية هو في مدى كسر هالات التقديس والتعظيم المحاطة بالرؤساء وتراجع مركزيتهم في الحياة فهم لا يزيدون عن كونهم موظفين في جهاز الدولة يقومون بواجبات مفروضة عليهم مقابل حقوق تمنح لهم فإذا قصروا حوسبوا أو أقيلوا وفيما عدا الصلاحيات التي يمنحها لهم القانون فهم بشر من عامة الشعب يأكلون مما يأكل الناس منه ويشربون مما يشربون ويمشون في أسواقهم ويركبون في مواصلاتهم العمومية..
والله أعلم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى