- achwak
- الجنس :
عدد المساهمات : 4671 نقاط التميز : 11973 تاريخ التسجيل : 24/03/2011 العمر : 47
الشاذلي بن جديد في شهادة مثيرة : قرارات مؤتمر الصومام فرضت علينا بالعنف والسلاح
الأحد 21 ديسمبر - 17:25
04 - 12 - 2008 // الشاذلي بن جديد في شهادة مثيرة : قرارات مؤتمر الصومام فرضت علينا بالعنف والسلاح
7 octobre 2012, 11:08
بن بلة أمر بإعدام شعباني والإسراع في تنفيذ الحكم مؤامرة العقداء لم تكن تنازعا على السلطة أو صراع عُصب[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ليس من عادتي الرد على ما يكتب حولي وحول فترة حكمي في الصحافة الوطنية. فقد آليت على نفسي التزام الصمت، ليس هروبا من قول الحقيقة، وإنما شرفي كمجاهد وحسّي بالمسؤولية كرجل دولة يمنعاني من الخوض في قضايا حساسة تتخذ، للأسف الشديد، عندنا في غالب الأحيان طابع النقاش العقيم والمهاترات السخيفة وتصفية الحسابات والتجريح.
ما نشرته بعض الصحف الوطنية من مقالات وتقارير حول تدخلي في الطارف أمام رفقائي في السلاح من القاعدة الشرقية وطلبة المركز الجامعي خير دليل على ذلك. وأنا، بالطبع، لا ألوم المراسلين المحليين على ما وقعوا فيه من أخطاء في نقل فقرات من تدخلي ونزعها عن السياق الذي قيلت فيه، فربما يعود السبب إلى عدم اطلاعهم على حقائق تاريخ ثورة التحرير. لكني اندهشت كثيرا لعنف الهجومات التي تضمنتها بعض المقالات على شخصي وفترة حكمي مما يعطي الانطباع بأن الخيوط تحركها جهات أخرى ليس من مصلحتها أن يتكلم الشاذلي بن جديد.
ولوضع حد للجدل القائم الذي حاول البعض أن يوهم الرأي العام من خلاله أن الشاذلي بن جديد أراد خلط الأوراق، أو أنه حاول أن يؤثر على الحراك السياسي الجاري الآن، أو أنه يطرح نفسه كبديل محتمل للخروج مما يسميه البعض ''أزمة''، أرى من واجبي توضيح أهم النقاط التي تناولتها في مداخلتي الطويلة بالطارف، وتصحيح بعض الأخطاء ووضع القضايا التي أثيرت في سياقها الحقيقي.
القاعدة الشرقية لم يتم الاتفاق بين قادة منطقة سوق أهراس رغم الجهود الحثيثة التي بذلها عمارة بوفلاز من أجل تجسيدها في الواقع على المستوى السياسي والتنظيمي. وكانت أسباب الفشل عديدة: منها تضارب الرؤى حول الأهداف وخلافات حول مسائل الانضباط ومعايير تولي المسؤولية واحتدام الصراع حول الزعامة الذي كانت تغذيه اعتبارات عصبية وإقليمية. وتزامن ذلك مع التحضيرات التي كانت جارية في النصف الأول من عام 1956 لعقد أول مؤتمر للثورة من أجل تقييم مسارها وتصحيح الأخطاء، والأهم من ذلك إسنادها ببرنامج سياسي وهيكل تنظيمي يجنبها مخاطر الانحراف. وكانت فكرة عقد لقاء بين قادة الثورة مطروحة آنذاك. وقد فكر فيها مصطفى بن بولعيد، لكن استشهاده حال دون ذلك. وبعد هجمات أوت 1955 تم الاتفاق على عقد اللقاء في المنطقة الثانية.
وقد أكد لي ذلك علي كافي مؤخرا. واختيرت آنذاك المشروحة بجبال بني صالح، مقر قيادة عمارة بوفلاز، لاحتضان المؤتمر لكونها منطقة آمنة بسبب وعورة جبالها وغاباتها الكثيفة مما يمنع الجيش الفرنسي من الوصول إليها وكذلك قربها من الحدود التونسية، وهو ما يسمح للمسؤولين الموجودين بالخارج الحضور دون أن يعرضوا أنفسهم للخطر. لكن انقطاع الاتصال بالمنطقة الثانية حال دون ذلك. وفضل مسؤولو الثورة عقد المؤتمر في قرية إفري بالصومام.
مؤتمر الصومام اتخذ قرارات حاسمة لم تكن محل إجماع تعذر على عمارة بوفلاز الانتقال للقاء المسؤولين عن الثورة بسبب الأوضاع الخطيرة السائدة في المنطقة، فأوفد في جوان 1956 حفناوي رماضنية وعمار بن زودة لشرح وجهة نظر مجاهدي القالة وسوق أهراس. وبعث معهما تقريرا مفصلا عن الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة. وطلب من المؤتمر عدم اتخاذ أي قرار بشأن منطقة سوق أهراس، وإيفاد لجنة لدراسة الأوضاع التي ازدادت سوءا، بعد الحصار الذي ضرب عليها منذ مطلع 1955 وتكثيف الجيش الفرنسي لعمليات التمشيط وسوء التفاهم بين مجاهدي النمامشة بعد انسحابهم بأسلحتهم نحو جبال تبسة.
وبعث بوفلاز وفدا آخر للاتصال بالبعثة الخارجية، وكلفه بنفس المهمة. وخلال مرور رماضنية وبن زودة بالشمال القسنطيني التقيا بالطاهر بودربالة ومسؤول آخر، ربما هو علي كافي. وحين علما بمهمتهما قالا لهما: إن المؤتمر عقد. وطلبا منهما الوثائق التي بحوزتهما قصد تسليمها لقيادة الثورة. وعاد رماضنية وبن زودة إلى منطقة سوق أهراس في نهاية شهر جوان. لكننا فوجئنا بانعقاد المؤتمر في شهر أوت بالصومام دون أن تشارك في أشغاله الولاية الأولى بعد استشهاد قائدها مصطفى بن بولعيد وغياب الوفد الخارجي وإقصاء منطقة سوق أهراس. وفوجئنا، أيضا، بصدور قرارات هامة بالنسبة لمستقبل الثورة ومصير منطقة سوق أهراس. ولم يطلع المؤتمرون على تقريرنا، الذي ربما أخفي أو مزّق. وأبقى المؤتمر على منطقة سوق أهراس تابعة للمنطقة الثانية، التي أصبحت تدعى الولاية الثانية. كما اتخذ نفس المؤتمر قرارات حاسمة لم تكن محل إجماع مثل أولوية الداخل على الخارج وأولوية السياسي على العسكري.
بعد رفضنا لقرارات مؤتمر الصومام، اتهمنا بأننا مشوشون. وظل هذا النعت لاصقا بنا فترة طويلة. ورفضت لجنة التنسيق والتنفيذ مدنا بأية مساعدة مادية بعد الطلب التي تقدم به عمارة بوفلاز. وضرب علينا حصار اقتصادي حقيقي واضطر سكان المناطق الحدودية إلى النزوح إلى تونس واضطررنا إلى الاعتماد على أنفسنا في تموين الجيش بالغذاء. وعشنا مدة ستة أشهر أو أكثر على أكل (السويكة): وهي خليط من القمح المطحون والخرّوب يتم مزجه بالماء يقدم كغذاء للجنود. وللخروج من هذه الأزمة قررت القيادة استغلال الموارد الطبيعية وبخاصة الفلين. ونجحت القيادة في توفير الأدوات، اللازمة لقطع الفلين، والعمال المؤهلين، وكانوا من المجاهدين الذين اشتغلوا من قبل في نفس المهنة. وأعد مخطط لإنجاح هذه العملية ووسائل النقل ومراكز تخزين الفلّين بالأراضي التونسية. وكان العمال يقطعون الفلّين تحت حراسة الجنود. وكان الفلّين ينقل إلى تونس ليباع هناك في الأسواق. ونجح عمارة بوفلاز في بيع حمولة باخرتين من الفلّين إلى إيطاليا، كما اتصل بوزير المالية التونسي لإعفائنا من الضرائب لكنه رفض. وساعدتنا تلك العوائد على تحسين الأوضاع الاقتصادية.
فشل اللقاء مع أوعمران بعد مؤتمر الصومام أوفد زيغود يوسف عمار بن عودة للإشراف على الحدود، وإبراهيم مزهودي لوضع حد للاستياء السائد في تبسة. لكن المبعوثين لم يستعملا الحوار والإقناع ولجآ إلى العنف والسلاح لفرض قرارات مؤتمر الصومام. لكنهما فشلا ودخلا إلى تونس. شعرنا بعد مؤتمر الصومام بالإقصاء والتهميش وكانت خيبة الأمل كبيرة في صفوف المجاهدين. وشرع عمارة بوفلاز في تنظيم عملية تحسيس واسعة. وأعاد الاتصال بمسؤولي جيش التحرير الوطني، في سوق أهراس وسدراتة وخنشلة والأوراس، الذين عقدوا اجتماعا في ديسمبر 1956 وحاولوا من جديد إنشاء ولاية مستقلة عن الولايتين الأولى والثانية هي ولاية عين البيضاء
. ورفضوا قرارات مؤتمر الصومام بسبب عدم تمثيله لجميع المناطق وتناقضه مع الاتجاه الأول للثورة واعترافه بأولوية السياسي على العسكري وعدم نصه على أن الجزائر دولة عربية إسلامية. كما طالبوا بإبعاد العناصر التي بقيت تعمل في تونس، وتكوين لجنة ممثلة لجميع المناطق للاتصال والتنسيق، وإبعاد مزهودي وبن عودة من تونس. وتعهدوا، من جهتهم، بنقل السلاح إلى المناطق الداخلية، وجددوا الثقة في علي محساس المكلف بتمثيل الجيش سياسيا وعسكريا في الخارج.
في تلك الفترة اتصلنا بأحمد بن بلة، الذي لم يوافق على قرارات مؤتمر الصومام، فأوفد علي محساس للاتصال بنا. وكانت هي المرة الأولى التي تعرفت فيها عليه. وأطلعناه على الجهود التي نبذلها في ميدان التنظيم والتجنيد والتدريب قبل تأسيس القاعدة الشرقية. بعد فشل بن عودة ومزهودي في مهمتهما، أرسلت لجنة التنسيق والتنفيذ، في نهاية سنة 1956 عمر أوعمران، الذي عين آنذاك مسؤولا عن التنظيم العسكري للوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، إلى تونس في محاولة لإصلاح الأوضاع المتردية في تونس وإبعاد علي محساس وأنصاره، الذين كانوا لا يزالون رافضين لقرارات مؤتمر الصومام. ووقعت مواجهات بين الطرفين، وتدخل الحبيب بورقيبة لفض الخلافات، وانتهت الأمور بمغادرة محساس تونس. في تلك الفترة التقى أوعمران بعمارة بوفلاز ونوابه، وشرحوا له موقف مجاهدي المنطقة، واقترح عليه بوفلاز أن ينظم له اجتماعا مع مسؤولي الأفواج بالمنطقة.
وهكذا سافرنا في مطلع 1957 إلى سوق الأربعاء بضواحي باجة، والتقينا بأوعمران في مزرعة أحد أحفاد الشيخ المقراني. قدم لنا عمارة بوفلاز أوعمران على أساس أنه موفد من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ لدراسة الوضع في منطقة سوق أهراس في الميدان، وخرج بوفلاز ولم يحضر الاجتماع. عرض علينا أوعمران قرارات مؤتمر الصومام، مؤكدا على طابعها الوطني، وتحدث عن الرهانات الكبرى التي تواجه الثورة وعلى ضرورة توحيد الصفوف. وقال في الأخير إن إنشاء ولاية جديدة يتنافى مع قرارات الصومام. وبعد المعارضة التي لقيها من جانبنا حاول أن يقنعنا بأن نختاره مسؤولا عنا. لكننا رفضنا وتمسكنا بمسؤولينا. وانتهى الاجتماع ليلا، وافترقنا كل إلى جهته.. وبعد ذلك قدم أعمران عرض حال عن مهمته إلى أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، مقترحا إنشاء نظام خاص بالمنطقة. ويؤكد بوفلاز في شهادته أنه ''يملك الوثائق الدالة على ذلك ومن بينها الوثيقة التي تقر فيها لجنة التنسيق والتنفيذ بجعل منطقة سوق أهراس قاعدة تموين تكون بمثابة ولاية. وهي بإمضاء بن خدة وكريم بلقاسم وسعد دحلب''. لم يوقع بن طوبال على الوثيقة لسبب واضح وهو رفضه فصل منطقة سوق أهراس عن الولاية الثانية، وخلافاته العميقة مع عمارة بوفلاز. ولم يستسغ قادة الولاية الثانية إنشاء القاعدة الشرقية. وظل بعضهم يعتبرها حتى سنة 1962 جزءا من الولاية الثانية. هكذا ظهرت رسميا القاعدة الشرقية، لكن قرار لجنة التنسيق والتنفيذ جاء ليكرس واقعا موجودا في الميدان قبل ذلك بسنة.
كنا في القاعدة الشرقية نرفض فكرة مؤامرة العقداء قيل وكتب الكثير عن حادثة الكاف، أو كما يسميها البعض، خطأ، مؤامرة العقداء، أحيانا، وأحيانا أخرى مؤامرة العموري. وأدلى برأيه، في أسبابها وملابساتها، حتى الذين لا علاقة لهم بها، لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر بي أن أوضح من البداية أننا، في القاعدة الشرقية، لم نكن نستسيغ كلمة مؤامرة. ذلك أن هذه الكلمة، بإيحاءاتها السلبية وتوظيفاتها السياسية، يمكن أن تقدم فكرة خاطئة عن فصل مأساوي من فصول كفاحنا المسلح، أو أن ترسم صورة مشوهة عن ثورتنا، عن طريق تقديمها وكأنها سلسلة من الدسائس والمؤامرات والمقالب والانقلابات، وهذا غير صحيح تماما. ولأني عشت بعض فصول حادثة الكاف، والتقيت بعض أعضاء الحكومة المؤقتة للتفاوض معهم حول مصير العموري وزملائه قبل إعدامهم، أرى من واجبي الإدلاء بشهادتي في الموضوع.
لم تكن القضية، في الحقيقة، تنازعا على سلطة أو صراع عصبة ضد عصبة أخرى، وإنما كان الأمر متعلقا بخلافات عميقة حول أساليب قيادة الكفاح المسلح وطرق تسيير الثورة سياسيا واختيار القادة، أي مصير الثورة بصفة عامة. وكان العموري وعواشرية ونواورة، وأغلب ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية، مقتنعين بأن الثورة قد انحرفت عن مسارها الأصلي، وأنه يجب التحرك لإصلاح الأوضاع قبل انفلاتها. هكذا تبلورت فكرة استعمال العنف ضد ''الباءات'' الثلاثة لحملهم على مراجعة القرارات التي اتخذوها في حق عمارة بوفلاز والعموري بعد حل لجنة العمليات العسكرية.
وينبغي لنا أن نرجع قليلا إلى الوراء لوضع حادثة الكاف في سياقها التاريخي الحقيقي بالحديث عن مصير القاعدة الشرقية وما كان يخطط لها في الخفاء. لم تعمّر القاعدة الشرقية، التي ولدت في الآلام والدموع، طويلا. فبعد عامين من نشأتها العسيرة وئدت بطريقة عسيرة أيضا مع نهاية سنة.1958 وأسدل الستار على مآثر وتضحيات قادتها وجنودها. وكان مصير بعض قادتها مأساويا ترك آثارا لا تمحى في نفوس مجاهدي المنطقة وفي مسيرة الثورة. كانت القاعدة الشرقية هي الرئة التي تتنفس منها الثورة، وكانت قلبها النابض. لكن الرهانات، التي أحاطت بها منذ تأسيسها، حوّلتها إلى مصدر لأطماع السياسيين وبعض المغامرين ودسائس الطامحين إلى الزعامة. صدقنا في البداية خبراستشهاد عبان ثم فوجئنا بالحقيقة المفجعة
كانت السنة التي تفككت فيها القاعدة الشرقية مضطربة وخطيرة عل أكثر من صعيد، فعلى مستوى قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ تفاقمت الخلافات بين أعضائها، وانعكست ميدانيا على القدرات القتالية للجيش، وطفت تلك الصراعات إلى السطح. ولم تعد سرا يخفى بعد مقتل عبان رمضان في نهاية .1957 في البداية صدقنا ما أعلنته جريدة المجاهد حول استشهاده في ميدان الشرف، لكننا فوجئنا، بعد فترة قصيرة، بالحقيقة المفجعة: وهي أن رفقاءه في السلاح استدرجوه إلى المغرب ليقتلوه. كانت الصدمة عنيفة في صفوف المجاهدين. وندد بوفلاز، رغم خلافه مع عبان، في رسالة شديدة اللهجة إلى لجنة التنسيق والتنفيذ، بهذا الاغتيال الجبان لأحد رموز الثورة، ونظم يوم حداد واحتجاج في القاعدة الشرقية.
في تلك الفترة كانت قيادة الجيش الفرنسي ماضية في تنفيذ مخططاتها الرامية إلى عزل جيش التحرير وقطع الدعم عنه من الخارج. وشرعت في تطبيق مخططي وزير الدفاع أندري موريس والجنرال سالان. أما على الصعيد السياسي فقد اتسمت سياسة الجمهورية الخامسة، التي وصلت إلى الحكم بفضل المتطرفين وقسم هام من ضباط الجيش الفرنسي، بالمزاوجة بين العمليات العسكرية والتنازلات الجزئية لصالح الجزائريين.
وكان اعتلاء ديغول سدة الحكم أخطر مرحلة مرت بها الثورة الجزائرية، وانخدع بها بعض القادة السياسيين، الذين صدقوا مبادرات ديغول وخاصة بعد زيارته إلى الجزائر في جوان 1958 ثم إعلانه لمشروع قسنطينة. كان مشروع قسنطينة يمثل الجزرة أما مخطط شال، الهادف إلى القضاء على جيش التحرير من خلال تكثيف عمليات مراقبة وتمشيط المناطق الحدودية، فقد كان بمثابة العصا. وتوج ديغول سياسته باقتراحه الشهير ''سلم الشجعان''، الذي كان يمثل بالنسبة إلينا رفع راية الاستسلام البيضاء واستبعاد الحوار حول المستقبل السياسي للجزائر.
في مثل هذه الأوضاع الصعبة بدأ التخطيط لتفكيك القاعدة الشرقية. وتمت الخطوة الأولى في النصف الأول من عام 1958 حين اتخذ كريم بلقاسم قرارا متسرعا يقضي بإنشاء لجنة العمليات العسكرية في الحدود الشرقية والغربية (الكوم). كان الهدف المعلن هو تكليف هذه الهيئة بقيادة العمل المسلح في الداخل، لكنها كانت، في الحقيقة، بداية لتفكيك القاعدة الشرقية وتصفية مسؤوليها. الحرس التونسي حاصر ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية واعتقلهم برزت الخلافات بين الباءات الثلاثة (بلقاسم كريم، بن طوبال لخضر، وبوصوف عبد الحفيظ) حتى في تشكيل الكوم. واضطر بوصوف وكريم وبن طوبال إلى الوصول إلى تسوية فيما بينهم من خلال مراعاة مبدأ التمثيل الجهوي ومبدأ تمثيل كل الولايات. وأصبح واضحا أن مبدأ القيادة الجماعية، الذي استندت إليه الثورة منذ اندلاعها، أصبح يتلون بحقائق الميدان ولعبة التوازنات. في الحدود الغربية (كوم الغرب) أنشئت لجنة العمليات العسكرية بقيادة هواري بومدين، الذي فرضه بوصوف، وعين العقيد الصادق نائبا له، وكانا يشرفان على الكفاح المسلح في الولايات الرابعة والخامسة والسادسة. أما كوم الشرق فقد كان بؤرة حقيقية للخلافات والتناقضات المنذرة بانفجار في أقرب الآجال. فلم يكن شيء يوحي بضمان أبسط شروط التنسيق والعمل الجماعي بين رئيسه محمدي السعيد (الولاية الثالثة) ومحمد العموري (الولاية الأولى) وعمار بن عودة (الولاية الثانية) وعمارة بوفلاز (القاعدة الشرقية). وكان الخلاف بين بوفلاز وبن عودة على أشده. وكان هذا الأخير ينسق مع بن طوبال لتحييد بوفلاز.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الجيوش التي قدمت لنقل السلاح، والتي أنيط بالكوم مهمة إدخالها إلى أرض الوطن في أقرب الآجال، لم تكن متعودة على قيادة مركزية، وكانت تدين بالولاء إلى مسؤوليها المباشرين. بعد ذهاب بوفلاز إلى الكوم أعيد النظر في قيادة القاعدة الشرقية، وعين الرائد محمد الطاهر عواشرية مسؤولا عنها والرائد شويشي العيساني نائبا له. وتولى مسؤولية المنطقة الأولى صهر بوفلاز، رصاع معزوز، يساعده ثلاثة نواب برتبة ملازم أول هم الشاذلي بن جديد ويوسف بوبير وبلقاسم عمورة المعروف بلضويوي. وأجريت تغييرات مماثلة في المنطقتين الثانية والثالثة اللتين بقيتا تحت مسؤولية عبد الرحمن بن سالم والطاهر الزبيري. في نهاية سبتمبر من السنة نفسها اتخذت لجنة التنسيق والتنفيذ، في اجتماع بالقاهرة، آخر قرار لها قبل تعويضها بالحكومة المؤقتة، والقاضي بإلغاء الكوم واتهام أعضائه بالتقصير والعجز في تطبيق قرارات القيادة واللاكفاءة. واتخذت أيضا قرارات تعسفية مجحفة في حقهم. وشعرنا، نحن الضباط في القاعدة الشرقية، بأن الأمر يتعلق بمكيدة تهدف إلى تصفية مسؤولينا والانتقام منهم، خاصة وأننا لاحظنا نوعا من التمييز في طبيعة العقوبات ودرجاتها. فقد سلطت أقسى العقوبات على قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية، واكتفت اللجنة بعقوبات بسيطة ضد الأعضاء الآخرين. وهكذا نزّلت رتبة بوفلاز ومنع من ممارسة أي نشاط وأبعد إلى بغداد، وليس إلى السودان كما جاء في بعض الكتب. كما نزّلت رتبة العموري وأبعد، هو الآخر، إلى جدة لكنه لم يلتحق بها وبقي لاجئا في ليبيا. بينما اكتفت اللجنة بإبعاد بن عودة لمدة ثلاثة أشهر إلى بيروت. أما المسؤول الأول عن الكوم، محمدي السعيد، المتهم الأول بضعف التسيير، فقد ألحق بالحكومة المؤقتة بالقاهرة ليكلف، بعد شهر، بقيادة التنظيم الجديد: هيئة أركان الشرق.
كان عمارة بوفلاز هو من دفع العموري إلى رفض قرارات الحكومة المؤقتة، أو بالأحرى قرارات الثلاثي (الباءات الثلاثة). لكنه كان يسعى إلى حل هذه المشكلة بالطرق السلمية وفي الأطر النظامية.
لكن العموري فضل اتباع أسلوب آخر هو استعمال القوة. وشرع العموري في تنسيق جهوده للإطاحة بالعسكريين في الحكومة المؤقتة مع أحمد نواورة، الذي خلفه على رأس الولاية الأولى، ومحمد الطاهر عواشرية قائد القاعدة الشرقية بعد بوفلاز. وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي الإسراع بدخول الجيش إلى التراب الوطني في تلك الظروف الصعبة. لكن نواورة وعواشرية رفضا هذا الأمر واشترطا الإشراف على قواعد الحدود. وأثناء ذلك كان العموري يخطط بالتنسيق مع مصطفى لكحل (المدعو باليسترو) للعودة إلى تونس. وكان الخطأ الذي ارتكبه العموري هو عقد الاجتماع في تونس بدل عقده داخل القاعدة الشرقية. فقد كان في إمكاننا أن نوفّر له الحماية، خاصة وأن قادة وجنود المناطق الثلاث كانوا يساندون أطروحاته.
وشرع عواشرية في عقد سلسلة من الاجتماعات معنا في المنطقة الأولى والثانية والثالثة. وكانت الاتهامات التي وجهها في تدخلاته، تتلخص في أن الحكومة المؤقتة تعيش في تونس حياة بذخ، في الوقت الذي يعاني فيه المجاهدون من نقص في السلاح والذخيرة، وطالب بتقديم توضيحات حول اغتيال عبان رمضان.
علم كريم بلقاسم ومحمود الشريف بوصول العموري إلى الكاف بواسطة قرام، الذي تكفل بنقله من طرابلس والذي كان سائقا خاصا لكريم. وفي اليوم الموالي جرى الاجتماع بحضور ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية: منهم الرائد شويشي العيساني، والعقيد أحمد نواورة، ومصطفي باليسترو، والرائد أحمد دراية، ومحمد الشريف مساعدية، وصالح الصوفي، والرائد بلهوشات. فداهم الحرس الوطني التونسي العمارة التي عقد بها الاجتماع، واعتقل المجتمعين..كانت الضربة قاسية بالنسبة إلينا. فبعد أيام شرع الحرس الوطني التونسي في نقل الجنود الجزائريين على الحدود لمحاصرتنا وقطع التموين عنا. ووجدنا أنفسنا بين مطرقة جيش الحدود بقيادة علي منجلي وسندان الجيش الفرنسي: إما أن ندخل في حرب الإخوة الأشقاء، وإما أن نسلم أنفسنا للعدو.. وكلا الخياران مر. وفضلنا الحل السلمي في الأطر النظامية.
بعد فترة طلبت منا الحكومة المؤقتة القدوم إلى تونس للاستماع إلى المتآمرين كما سمّتهم. فذهبنا، أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين نوبلي رفقة محمدي السعيد إلى معسكر ''الدان دان'' حيث كانت الجماعة مسجونة. وقابلنا هناك كريم بلقاسم وبن طوبال، وكان بوصوف غائبا. حاولنا أن نقنع أعضاء الحكومة المؤقتة بأن الاجتماع كان مجرد اجتماع استشاري لإصلاح الأوضاع. لكن كريم وبن طوبال أصرا على أن العموري وجماعته كانوا يخططون لانقلاب ضد قيادة الثورة خدمة لمصالح أجنبية. طلبنا منهم الإبقاء عليهم في السجن وعدم إعدامهم فوافقوا شرط أن نسلّمهم الرائد أحمد دراية الذي نجح في الإفلات من قبضة الحرس التونسي ودخل التراب الوطني.
لا أعتبر الإنتماء إلى الجيش الفرنسي إهانة أو مساسا بالشرف وأريد هنا أن أوضح قضية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي بما لا يدع مجالا لأي تأويل. أنا لا أعتبر الانتماء إلى الجيش الفرنسي إهانة أو مساسا بالشرف. وكنت دائما أميّز بين من اضطر، لسبب أو آخر، لأداء الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، وبين من عرفوا بالفارّين من الجيش الفرنسي، الذين التحقوا بالكفاح المسلح في وقت متأخر، وكانوا سببا في خلافات كثيرة أثناء الثورة. فقد كان لدي الكثير من الأصدقاء ممن خدموا في هذا الجيش، ثم بعد ذلك وجهوا السلاح ضده حين أدركوا بأن لحظة الاختيار قد دقت. وأبلوا بلاء حسنا في المعارك التي خاضوها ضد من كانوا قادتهم في الثكنات الفرنسية.
لقد كنا، منذ بداية الثورة، نشجع هؤلاء الجنود وضباط الصف على الالتحاق بنا. ووقعت، بالفعل، عمليات فرار شهيرة: مثل فرار سالم جوليانو وقارة عبد القادر، وعملية ثكنة البطيحة، مقر الكتيبة الثالثة للرماة الجزائريين، التي نفذها في مارس 1956 عبد الرحمن بن سالم ومحمد الطاهر عواشرية وعلي بوخذير ويوسف الأطرش. هؤلاء استولوا على كميات كبيرة من السلاح كانت الثورة في حاجة ماسة إليها. وساعدوا بما اكتسبوه من تجربة الأفواج الأولى من المجاهدين في التدريب والتكوين. وتحوّلوا، فيما بعد، إلى قادة كبار في القاعدة الشرقية، ومنهم من سقط في ساحة الشرف.
لقد حاول الجنرال ديغول اختراق الثورة بكل الوسائل، وطبق سياسة العصا والجزرة. وكانت دفعة ''لاكوست'' هي التتويج لسياسة اختراق جيش التحرير الوطنى. فبعد فرار مجموعة من الضباط الجزائريين ألحقهم كريم بلقاسم بوزارته، وكلفوا بتطبيق مخطط الرائد إيدير، الذي لم يأخذ حقائق الميدان بعين الاعتبار، ونصب هؤلاء الضباط على رأس فيالق، لكن المجاهدين رفضوهم وطردوا بعضهم. وأدى إصرار القيادة الثلاثية على سياسة فرض هؤلاء الضباط إلى وقوع عدة محاولات تمرّد مثل عصيان جبل الشعامبي، وتمرّد حمى لولو، واستسلام أحمد حمبلي. أما فيما يتعلق بخالد نزار فقد أرسله محمدي السعيد إلى المنطقة الأولى، التي كنت مسؤولا عنها، كمستشار عسكري. لكن نوابي في المنطقة رفضوه في البداية، فأقنعتهم بضرورة الامتثال إلى قرار القيادة. وظل معنا رغم أننا كنا نعرف أنه يعمل لصالح الحكومة المؤقتة.
أنا من أجهض تمرد شعباني والأمر بإعدامه صدر قبل جلسة المحاكمة أنا الذي أجهضت تمرد شعباني حين كنت قائدا للناحية العسكرية الخامسة، ثم شكلت محكمة ثورية خاصة لمحاكمته. واتصل بي بومدين ليقول لي: ''إن الرئيس أحمد بن بلة عيّنني عضوا في هذه المحكمة إلى جانب سعيد عبيد وعبد الرحمن بن سالم''. وأضاف بومدين: ''إن الرئيس يطلب منكم الحكم عليه بالإعدام. وإذا لم تصدقني اتصل بالرئيس حين تأتي إلى العاصمة وسيقول لك نفس الكلام''. صدقت بومدين.. فلم يكن من عادته الكذب عليّ. وأريد هنا أن أصحح معلومات خاطئة نشرت في شكل شهادات في الصحافة الوطنية، تقول إن أحمد بن الشريف وأحمد دراية وأحمد عبد الغني كانوا أعضاء بالمحكمة. وهذا غير صحيح.
تشكلت المحكمة، بعضوية الضباط المذكورين أعلاه، وترأسها قاض مدني من الجزائر العاصمة، اسمه زرطال. ذهبنا إلى وهران حيث كان شعباني مسجونا مع جماعة أخرى من المساجين السياسيين في سجن سيدي الهواري، منهم محمد خبزي ومحمد جغابة وحسين الساسي والطاهر لعجل وسعيد عبادو وأحمد طالب الإبراهيمي ومعارضون آخرون لبن بلة.
لم تستغرق المحاكمة وقتا طويلا. وبعد المداولة حكم على شعباني بالإعدام بتهمة محاولة التمرّد على الحكم وزرع الفتنة في صفوف الجيش. وبعد النطق بالحكم تلاقت نظراتنا، وانتابني في تلك اللحظة شعور بأن لا أحد منا مقتنع بهذا الحكم القاسي. لذلك طلبنا من شعباني أن يلتمس العفو من الرئيس بن بلة. فقال لنا، وكان منهارا: ''اطلبوه أنتم باسمي''.
كلّفنا سعيد عبيد، بصفته قائدا للناحية العسكرية الأولى، أن يقوم بذلك ويتصل ببن بلة. ولكن بن بلة رفض رفضا قاطعا التماسنا، بل أصر على تنفيذ الحكم كما صدر عن المحكمة معتبرا إياه حكما غير قابل للاستئناف. ولما أخبرنا سعيد عبيد بذلك قلت له: ''اطلب العفو باسمنا نحن الضباط، وقل للرئيس إن شعباني مجاهد ورفيق سلاح، أمرتنا بأن نحكم عليه بالإعدام فحكمنا بذلك، ونحن نعتقد بأنه لا يستحق ذلك، وهو الآن يطلب منكم تحويل حكم الإعدام إلى عقوبة سجن''. ولمّا كلّمه سعيد عبيد ثانية أجابه بن بلة بنرفزة وتشنّج: ''قلت لكم أعدموه هذه الليلة''. وشتم سعيد عبيد، وشتم حتى أمه، وقال له: ''أمنعك من الاتصال بي مرة أخرى''. وأغلق في وجهه التليفون.
في الثالث من سبتمبر أعدم شعباني مع طلوع الفجر في غابة بالقرب من كاناستل، بحضور أعضاء المحكمة، وبحضور أفراد من الدرك الوطني. وقد لاحظت العدد الكبير لأفراد الدرك، وفهمت أنهم كانوا يخشون أن نقوم بتهريبه قبل الإعدام. وبعد الإعدام وضعوا جثته في نعش، ودفن في مكان مجهول. وقيل لي فيما بعد إن بن بلة كان يستعد، في اليوم الموالي، للسفر إلى القاهرة. وحين قرأ في الجرائد خبر إعدام شعباني صاح قائلا: ''خسارة كيف يعدمون ضابطا شابا مثل شعباني''. زوجة سعيد عبيد أكدت لي حقيقة انتحاره
بعد فشل انقلاب الطاهر الزبيري وُجد السعيد عبيد ميتا في مكتبه. وراجت آنذاك شائعات يقول بعضها إن كومندوسا قتله، وبعضها الآخر يتهم سليمان هوفمان بقتله وغيرها من الشائعات التي تروج عادة في مثل هذه الحالات.
صدّق قادة الفيالق التابعة للناحية العسكرية الأولى، شائعة مقتل السعيد عبيد. فاعتصموا بالثكنات والمعسكرات وأغلقت الأبواب، ومنعوا دخول أي شخص، معلنين بذلك عدم اعترافهم بالنظام. كان بومدين حكيما ولم يفقد رباطة جأشه، ولم يلجأ إلى استعمال القوة، لأنه كان يدرك خطورة الوضع، ويسعى إلى تخفيف التوتر.. فاتصل بي وطلب مني أن أقنعهم بالعدول عما قاموا به. ونجحت في إقناع قادة الفيالق بوضع حد للعصيان، والتزمت معهم بالتحقيق في موت سعيد عبيد.
ذهبت إلى بيت سعيد عبيد. وروت لي زوجته تفاصيل آخر مكالمة هاتفية لها معه، وأكدت لي أنه انتحر فعلا بعد الضغوط التي مورست عليه.
*رئيس الجمهورية الأسبق
المصدر :بقلم: الشاذلي بن جديد*
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى