بابلو بيكاسو رائد الفن التشكيلي في القرن العشرين
الثلاثاء 5 يناير - 21:54
[size=24[size=18]]
بابلو بيكاسو رائد الفن التشكيلي في القرن العشرين
بابلو بيكاسو (Pablo Ruiz) فنان تشكيلى من
طراز فريد بل من أشهر فنانى القرن بلا منازع وأعلاهم منزلة وأعظمهم قدرة وأكثرهم تنوعاً وأبعدهم أثراً فى
الابداع والتجديد فهو مصور (رسام)
وفنان تشكيلى وخزاف مصمم ومزخرف، كان متعدد المواهب متواصل النشاط متجدد الرؤية متقلب المزاج وفير الانتاج يقدر ما صنعت يداه
من
إبداعات فنيه بنحو عشرين ألف عمل منتشرة فى كل أرجاء
العالم
فى المتاحف والمصارف والقصور وكثير من أعماله ما يعرض تحت حراسة سرية
وإلكترونية مشددة مثل لوحته الضخمة الشهيرة ''جورنيكا'' التى يحتفظ بها مركز
الملكة صوفياً الثقافى بمدريد داخل حواجز كبيرة ـ تشبه التابوت ـ من الواح الزجاج
الذى لاينفذ منه الرصاص، وهى تحت المراقبة الدائمة طوال ساعات الليل والنهار.
عاش بيكاسو حتى تجاوز التسعين (ولد سنة 1881 ومات سنة 1973) وظل على آخر أيام
حياته محتفظاً بحيويته وجاذبيته وذكائه وإبداعه بسيطاً فى مظهره بسيطاً فى
علاقاته، عازفاً عن الثرثرة، عاكفاً على العمل فى مرسمه، أو مستمتعا بدفء البيت
وصحبة الأصدقاء، وكان أبوه رساما ومعلما للرسم فى إسبانيا ويقال إن أول كلمة نطقها
بيكاسو كانت ''قلم'' فى عام 1900 سافر لأول مرة من بلده برشلونة إلى باريس، فكان
لها تأثير بالغ على أفكاره ورؤيته ومزاجه، وهو يخطو على أول طريقه الفنى الطويل
وأخذ يتردد مرارا على باريس فى الفترة بين عامى 1900 و1904 وهى الفترة التى توافقت
مع ما يسميها البعض ''المرحلة الزرقاء'' لأنه أكثر فيها من استخدام اللون الأزرق
الشفاف البارد فى لوحاته، واختار لموضوعاته أفقر الأحياء حيث يقيم ''المنبوذون''
المعدمون من حثالة المجتمع، فاتشحت لوحاته بغلالة من الكآبة والحزن وإثارة الغيظ
معا، أراد الفنان ''الإنسان'' إبرازها وفى هذه الفترة الزمنية ايضا انجز كثيراً من
أعمال الحفر الفنية تحمل كل هذه السمات.
فى عام 1904 قرر الإقامة الدائمة فى باريس وأصبح محور الارتكاز أو كما يقول العرب
''واسطة العقد'' ـ بين ناشئة الكتاب والمفكرين وفنانى الطليعة ممن سيكون لهم شأن
كبير فى المستقبل وفى الفترة القصيرة بين عامى 1904 و1905 اتخذ فنه منحى جديداً أو
مختلفاً فقد توارت من لوحاته الألوان الزرقاء متنوعة الدرجات، لتفسح مكاناً
للألوان القرمزية والرمادية والوردية (ولذلك أطلق عليها هواة التقسيم المرحلة
الوردية) ودخلت فى لوحاته شخوص جديدة الراقص والبهلوان وخاصة مهرج السيرك.
التقى فى عام 1906 بالفنان الفرنسى '' ماتيس '' ومع أنه أبدى إعجاباً بلوحات فنانى
الاتجاه '' الوحشى''إلا أنه لم يتبع طريقة أو أسلوب أصحاب هذا الاتجاه فى التعبير
والزخرفة اللونية.
فى الفترة بين عام 1906 و1907 اتجه بيكاسو نحو الفن الافريقى إذ تأثر
بالتماثيل والأشكال الزنجية البدائية بينما أثار انتباهه بدرجة أكبر فى تلك الفترة
ما فاجأ به الفنان الكبير سيزان عالم الفن بلوحته الشهيرة ''فتيات أفينيون'' وفيها
تشويه متعمد الصياغة فى الشكل، وتتناقض تماماً مع كل القواعد التقليدية فى مقاييس
الجمال المعهودة آنذاك، فكانت بمثابة ثورة على المألوف، مثل ثورة ''الوحشيين'' فى
مجال استخدام الالوان وأيحاءاتها وأصبحت اللوحة المرسومة غارقة فى الغموض، عسيرة
على الفهم، حتى من الفنانين التقليديين ومنعت اللوحات الحديثة الأسلوب والاتجاه من
الاشتراك فى المعارض الرسمية حتى سنة 1937م لامس بيكاسو ذلك كله، وراح يطور، ويجدد
ويتخذ لنفسه فى كل محاولة أسلوبا خاصاً متميزاً سرعان ما ألقى ظلاله على مدارس
الفن الحديث ثم كان المبشر بالأسلوب ـ أو النمط ـ ''التكعيبى'' الذى نماه وطوره مع
النان براك، فى عام 1917 سافر بيكاسو مع صديقه الفنان الأديب ''جان كوكتو'' إلى
روما لعمل تصميمات ملابس ومناظر ''باليه'' بعنوان ''استعراض'' وفى السنوات التالية
وضع تصميمات لمسرحيات باليه أخرى وقد أوحت إليه زيارته لروما أن يتخذ نهجاً جديداً
فى أعماله الفنية بعد مشاهدته (وتأثره) لروائع التراث الفنى الكلاسيكى الإيطالى،
ظهر ذلك فى أعماله التى أبدعها فى أوائل العشرينيات لكنه تأثر أيضا باتجاه
السيريالية وان ظل محتفظاً برؤيته الذاتيه التحليلية التى عصمته من الجنوح إلى
اللاعقلانية، أو الاستغراق فى تصوير الاحلام وما يدور فى اللاوعى وكانت بداية لذلك
مع لوحته '' الراقصات الثلاث '' عام 1925 وهى محاكاة ساخرة لاذعة لرقص الباليه
الكلاسيكى وقد رسمها فى فترة معاناته المؤلمة وتعاسته من زواجه الأول ثم استهواه
عالم الأساطير، فانعكست على لوحاته التالية مثل لوحة ''الحصان المحتضر'' ـ ولوحة
'' المينوطور'' ولوحة '' امرأة باكية''، فى هذه الفترة من أعوام الثلاثينيات انجز
أشهر أعماله (العشرين ألفا) على الإطلاق، وهى ''جورنيكا''، لوحة جدارية ضخمة رسمها
لتعرض فى الجناح الأسبانى بالمعرض الدولى فى باريس (1937) وهى تعبير صارخ مفزع
حزين مشمئز عن تدمير القنابل لعاصمة إقليم الباسك ''جورنيكا'' ـ وهى موطنه الأصلى
ـ أثناء الحرب الأهلية بين سنة 1936 ـ 1939، والتى جاءت بفرانكو إلى الحكم المطلق،
ثم أتبعها مماثلة فى التعبير مثل لوحة ''البيت المقبرة'' وفيها إظهار لبشاعة الحرب
وقسوتها المهلكة المخربة وفى هذا الصدد قال بيكاسو: ''إن اللوحات لا ترسم من أجل
تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات''.
إذا كان هناك فنان جسد الفن الحديث في نظر الإنسان العادي فهو بلا شك
بابلو بيكاسو
(1881-1973) وحتى أولئك الذين لم تقع أبصارهم على
نسخة من أعماله المصورة، صاروا يرددون اسمه شاهداً على كل ما يتصف بالجرأة والتحدي و"الإسراف"
في فن العصر الحديث.
غير أن بيكاسو، في الواقع ، لم يكن اكثر الرسامين ثورية
في القرن العشرين، فقد سبق أن وقف
كاندتسكى وموندريان موقفاً معارضاً للتقليد اشد منه واقوى، وادارا ظهريهما له تماماً وتجاهلاه كلياً، بينما اكتفى بيكاسو
باستهجانه وازدرائه.
هل يعود سبب ذلك إلى أن فنه يقدم تنويعا أعظم؟ انه لايقدم حتما تنويعاً اكثر
مما قدمه بول كلي.
مع ذلك، ففي الإمكان تعليل الحقيقة الماثلة التي جعلت
منه رمزاً لكل ظاهرة فنية جريئة، وليس هناك
فنان سواه قلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب بهذا العنف وهذا الاستخفاف المكابر.
ليس من أحد غيره حير الجمهور بهذا التغيير المفاجئ المثير في الأسلوب مرة بعد أخرى عندما اقبل على باريس أول
مرة في عام 1900.
رسم في المونمارتر، باسلوب متأنق نوعاً ما، أعمالا
أظهرت تأثير تولوز- لوتريك
وفويلار عليه.
وفي السنة التي تلتها بدأ الأزرق البارد يطغى على ملونته، فرسم نساءً باردات حزينات واطفالاً مرضى ومتسولين
مهزولين مسنين.
ثم انتقل، بعد ثلاث سنوات، من هذه الفترة الزرقاء الى الفترة الوردية ليصور لنا فيها المهرجين
والبهلوانيين والسركس الى المآسي البشرية
إلا قليلاً، على الرغم من أننا نجد هنا وهناك وجوها خانعة وأسارير لا تعرف الابتسامة إليها طريقاً.
وقد حل بيكاسو، بعد ان ترك أسبانيا نهائيا، في نزل في "باتو لافوار" المعروف في شارع
رافنيان في المونمارتر، وشرع بعدها بقليل تطوير التكعيبية، وألزم نفسه بتحديد نهجه واضحاً في هذا
السياق، حتى بدأ كأنه لن
يستطيع الحياد عنه أبداً. لكنه في عام 1917 بدأ يرسم صوراً شخصية على غرار أسلوب أنكر التقليدي، فهل كان ذلك يؤشر إلي إنكار تام
للإنجازات التكعيبية ؟ كلا، لقد تنقل
سنوات عديدة بين نمطين من التعبير، حتى حل عام 1921 فشرع يصور الأشكال الإنسانية بالأسلوب الكلاسيكي الجديد، نافخاً أجسامها
أحياناً بشيء من الوقاحة، ومعيداً
في الصور الأخرى بناءها من جديد مستعيناً على ذلك بأشكال من اختراعه. بعد ذلك حين نبذ "الكلاسيكية الجديدة" ثانية لينصرف
إلى أسلوب ذاتي اكثر فأكثر، كان ما
يزال يتبنى اشد النزعات تناقضاً، فهو يتوالي متزناً وممزقا، كيساً ومتوحشاً، ودوداً وشرياً، لكنه يبقى هو نفسه دائماً.
هذا التنوع غالياً ما يفسر لدى الفنان المغمور بأنه دليل نقص في قناعته وموقفه، لكن لدى بيكاسو
كان
دليلاً على الاتساع والغنى والعبقرية، بفضل حيويته
المتجددة والنضارة المستمرة والقلق المتواصل.
لقد كان أيضا ثمرة الرغبة المعتملة فيه أبداً للتعبير
عن
نفسه بحرية تامة، فبيكاسو قد يكون الفنان الوحيد في
عصرنا الذي يفعل بالضبط ما يشاء ومتى يشاء.
وفي مجتمع يتطور سريعا نحو تنظيم الحياة وبرمجتها وفق
قواعد صارمة و"يمقيس"
العقول، فان موقفاً كموقفه يبدو مروعاً واستفزازياً لا محالة.
أن ما كان يسعى إليه بيكاسو قبل كل شئ هو قوة التعبير،
الإفصاح القاطع المؤثر. لم يحاول
قط أن يجذبنا إليه، ولم يكن ليخطر على باله أن يجعل من فنه " مهدئاً يريح الذهن" كما فعل ماتيس. بعيداً عن هذا، أحب أن يثيرنا، أن
يقلقنا، أن يهزنا من الأعماق.
ان ألوانه تتعارض اكثر مما تنسجم ، وتكوينات معظم أعماله مثيرة بسبب ازدرائه "الجمال" وبسبب معالجته الفظة
العابرة، وهجوميته، فلحظة القدرة على ا ن يمتلك ليونة ماكرة، وله القدرة أيضا على أن يكون صلباً، مفاجئاً،
فولاذياً، خشناً.
بيكاسو، باختصار، تعبيري سن نهجاً، يفضل تجربته
التكعيبية، اكثر ثورية من
التعبيرية، فعشقه للحرية قادة إلى خوض التجربة مع الشكل، ليرى المدى الذي يستطيع أن يبلغه دون ان ينزلق في هوة الإسراف غير المبرر. وقد
ننكر ما تراه أعيننا فندعي: بأنه لم
يسقط فعلاً بسبب انغماسه المفرط ذلك، فجزء من فنه نوع من اللعبة دون جدال، انه قاس تارة ومسل تارة أخرى. لكن هناك عدد لا يحصى من
رسومه، في كل مرحلة من مراحله، يدلل على
عمق مشاعره وحيوية أفكاره.
في عام 1937 برز في فنه اتجاه جديد، وكان دافعه سياساً صرفاً : الحرب الأهلية الأسبانية، فحتى ذلك الحين
كان
بيكاسو منهمكا بمشكلاته الفنية والشخصية، أما الآن فصار
همه شعب بأكمله حفزة بالقدر ذاته، وبعد القصف
الوحشي الذي تعرضت له البلدة الصغيرة "غرنيكا" بالطائرات الفاشية، رسم ، كصرخة احتجاج، أحد أشد أعماله الفنية إدانة - يمثل أقصى
ما أوحى به الرعب الناجم من الدمار
في أي مكان.
بعد هذا ليس عجباً أن يتخذ بيكاسو موقفا منحازا من
الحرب العالمية الثانية، فمنذ ذلك الوقت شرع يرسم سلسلة من النساء الجالسات بوجوه مشوهة بوحشية،
تحمل في ملامحها اقسى صنوف العذاب والحزن التي حلت بالبشرية في تلك السنوات المروعة.
أن فن بيكاسو ليس فناً مقطراً في المختبر، انه فن مرتبط فن ملتزم،
ملتصق بحياة الفنان نفسه، ويعبر لنا بصدق عن حماسات حياته، وسورات غضبها، ومسيراتها واحباطاتها،
ومراراتها.
انه يعبر أيضا عن إرادة لا حد لها للقوة، فكل شئ يلمسه بيكاسو
عليه أن يحوله حالة أخرى، أن يجعله شيئاً خاصاً به وحده لا يتسنى له أن يوجد لولاه حتى ولو اضطر إلى
ليه واغتصابه
وتقويضه.
مع ذلك هو حين يهدمه فانه لا يقصد جمع أشلائه من جديد، بل تشييد
بناء جديد حيث تمنح الأشياء حياة جديدة، اكثر إثارة واكثر تعبيراً واكثر استحواذاً من ذي قبل.
ولا مناص لنا من الاعتراف أن هناك كبرياء شامخة وراء هذا السلوك،
كما أن هناك بالقدر ذاته كبرياء شامخة في إنسان العصر الذي لا يتوقف عن زعزعة النظام الطبيعي، وتكييف
العالم إرضاء لرغباته وحاجاته، اكثر فأكثر، بالصورة التي تحلو له. ب
هذا المنظار، يعكس بيكاسو أحد أقوى النوازع الإنسانية في القرن
الحالي، فهو بصراحة تكاد تكون وحشية، يرينا الجانب المتفوق لتلك النزعة، لكنه يجعلنا نحسن، عن إقناع،
بالقلق الذي توحي به الأسئلة المعذبة التي تواجه الإنسان وهو في عز سطوته وانتصاراته.
بابلو بيكاسو رائد الفن التشكيلي في القرن العشرين
بابلو بيكاسو (Pablo Ruiz) فنان تشكيلى من
طراز فريد بل من أشهر فنانى القرن بلا منازع وأعلاهم منزلة وأعظمهم قدرة وأكثرهم تنوعاً وأبعدهم أثراً فى
الابداع والتجديد فهو مصور (رسام)
وفنان تشكيلى وخزاف مصمم ومزخرف، كان متعدد المواهب متواصل النشاط متجدد الرؤية متقلب المزاج وفير الانتاج يقدر ما صنعت يداه
من
إبداعات فنيه بنحو عشرين ألف عمل منتشرة فى كل أرجاء
العالم
فى المتاحف والمصارف والقصور وكثير من أعماله ما يعرض تحت حراسة سرية
وإلكترونية مشددة مثل لوحته الضخمة الشهيرة ''جورنيكا'' التى يحتفظ بها مركز
الملكة صوفياً الثقافى بمدريد داخل حواجز كبيرة ـ تشبه التابوت ـ من الواح الزجاج
الذى لاينفذ منه الرصاص، وهى تحت المراقبة الدائمة طوال ساعات الليل والنهار.
عاش بيكاسو حتى تجاوز التسعين (ولد سنة 1881 ومات سنة 1973) وظل على آخر أيام
حياته محتفظاً بحيويته وجاذبيته وذكائه وإبداعه بسيطاً فى مظهره بسيطاً فى
علاقاته، عازفاً عن الثرثرة، عاكفاً على العمل فى مرسمه، أو مستمتعا بدفء البيت
وصحبة الأصدقاء، وكان أبوه رساما ومعلما للرسم فى إسبانيا ويقال إن أول كلمة نطقها
بيكاسو كانت ''قلم'' فى عام 1900 سافر لأول مرة من بلده برشلونة إلى باريس، فكان
لها تأثير بالغ على أفكاره ورؤيته ومزاجه، وهو يخطو على أول طريقه الفنى الطويل
وأخذ يتردد مرارا على باريس فى الفترة بين عامى 1900 و1904 وهى الفترة التى توافقت
مع ما يسميها البعض ''المرحلة الزرقاء'' لأنه أكثر فيها من استخدام اللون الأزرق
الشفاف البارد فى لوحاته، واختار لموضوعاته أفقر الأحياء حيث يقيم ''المنبوذون''
المعدمون من حثالة المجتمع، فاتشحت لوحاته بغلالة من الكآبة والحزن وإثارة الغيظ
معا، أراد الفنان ''الإنسان'' إبرازها وفى هذه الفترة الزمنية ايضا انجز كثيراً من
أعمال الحفر الفنية تحمل كل هذه السمات.
فى عام 1904 قرر الإقامة الدائمة فى باريس وأصبح محور الارتكاز أو كما يقول العرب
''واسطة العقد'' ـ بين ناشئة الكتاب والمفكرين وفنانى الطليعة ممن سيكون لهم شأن
كبير فى المستقبل وفى الفترة القصيرة بين عامى 1904 و1905 اتخذ فنه منحى جديداً أو
مختلفاً فقد توارت من لوحاته الألوان الزرقاء متنوعة الدرجات، لتفسح مكاناً
للألوان القرمزية والرمادية والوردية (ولذلك أطلق عليها هواة التقسيم المرحلة
الوردية) ودخلت فى لوحاته شخوص جديدة الراقص والبهلوان وخاصة مهرج السيرك.
التقى فى عام 1906 بالفنان الفرنسى '' ماتيس '' ومع أنه أبدى إعجاباً بلوحات فنانى
الاتجاه '' الوحشى''إلا أنه لم يتبع طريقة أو أسلوب أصحاب هذا الاتجاه فى التعبير
والزخرفة اللونية.
فى الفترة بين عام 1906 و1907 اتجه بيكاسو نحو الفن الافريقى إذ تأثر
بالتماثيل والأشكال الزنجية البدائية بينما أثار انتباهه بدرجة أكبر فى تلك الفترة
ما فاجأ به الفنان الكبير سيزان عالم الفن بلوحته الشهيرة ''فتيات أفينيون'' وفيها
تشويه متعمد الصياغة فى الشكل، وتتناقض تماماً مع كل القواعد التقليدية فى مقاييس
الجمال المعهودة آنذاك، فكانت بمثابة ثورة على المألوف، مثل ثورة ''الوحشيين'' فى
مجال استخدام الالوان وأيحاءاتها وأصبحت اللوحة المرسومة غارقة فى الغموض، عسيرة
على الفهم، حتى من الفنانين التقليديين ومنعت اللوحات الحديثة الأسلوب والاتجاه من
الاشتراك فى المعارض الرسمية حتى سنة 1937م لامس بيكاسو ذلك كله، وراح يطور، ويجدد
ويتخذ لنفسه فى كل محاولة أسلوبا خاصاً متميزاً سرعان ما ألقى ظلاله على مدارس
الفن الحديث ثم كان المبشر بالأسلوب ـ أو النمط ـ ''التكعيبى'' الذى نماه وطوره مع
النان براك، فى عام 1917 سافر بيكاسو مع صديقه الفنان الأديب ''جان كوكتو'' إلى
روما لعمل تصميمات ملابس ومناظر ''باليه'' بعنوان ''استعراض'' وفى السنوات التالية
وضع تصميمات لمسرحيات باليه أخرى وقد أوحت إليه زيارته لروما أن يتخذ نهجاً جديداً
فى أعماله الفنية بعد مشاهدته (وتأثره) لروائع التراث الفنى الكلاسيكى الإيطالى،
ظهر ذلك فى أعماله التى أبدعها فى أوائل العشرينيات لكنه تأثر أيضا باتجاه
السيريالية وان ظل محتفظاً برؤيته الذاتيه التحليلية التى عصمته من الجنوح إلى
اللاعقلانية، أو الاستغراق فى تصوير الاحلام وما يدور فى اللاوعى وكانت بداية لذلك
مع لوحته '' الراقصات الثلاث '' عام 1925 وهى محاكاة ساخرة لاذعة لرقص الباليه
الكلاسيكى وقد رسمها فى فترة معاناته المؤلمة وتعاسته من زواجه الأول ثم استهواه
عالم الأساطير، فانعكست على لوحاته التالية مثل لوحة ''الحصان المحتضر'' ـ ولوحة
'' المينوطور'' ولوحة '' امرأة باكية''، فى هذه الفترة من أعوام الثلاثينيات انجز
أشهر أعماله (العشرين ألفا) على الإطلاق، وهى ''جورنيكا''، لوحة جدارية ضخمة رسمها
لتعرض فى الجناح الأسبانى بالمعرض الدولى فى باريس (1937) وهى تعبير صارخ مفزع
حزين مشمئز عن تدمير القنابل لعاصمة إقليم الباسك ''جورنيكا'' ـ وهى موطنه الأصلى
ـ أثناء الحرب الأهلية بين سنة 1936 ـ 1939، والتى جاءت بفرانكو إلى الحكم المطلق،
ثم أتبعها مماثلة فى التعبير مثل لوحة ''البيت المقبرة'' وفيها إظهار لبشاعة الحرب
وقسوتها المهلكة المخربة وفى هذا الصدد قال بيكاسو: ''إن اللوحات لا ترسم من أجل
تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات''.
| |
|
إذا كان هناك فنان جسد الفن الحديث في نظر الإنسان العادي فهو بلا شك
بابلو بيكاسو
(1881-1973) وحتى أولئك الذين لم تقع أبصارهم على
نسخة من أعماله المصورة، صاروا يرددون اسمه شاهداً على كل ما يتصف بالجرأة والتحدي و"الإسراف"
في فن العصر الحديث.
غير أن بيكاسو، في الواقع ، لم يكن اكثر الرسامين ثورية
في القرن العشرين، فقد سبق أن وقف
كاندتسكى وموندريان موقفاً معارضاً للتقليد اشد منه واقوى، وادارا ظهريهما له تماماً وتجاهلاه كلياً، بينما اكتفى بيكاسو
باستهجانه وازدرائه.
هل يعود سبب ذلك إلى أن فنه يقدم تنويعا أعظم؟ انه لايقدم حتما تنويعاً اكثر
مما قدمه بول كلي.
مع ذلك، ففي الإمكان تعليل الحقيقة الماثلة التي جعلت
منه رمزاً لكل ظاهرة فنية جريئة، وليس هناك
فنان سواه قلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب بهذا العنف وهذا الاستخفاف المكابر.
ليس من أحد غيره حير الجمهور بهذا التغيير المفاجئ المثير في الأسلوب مرة بعد أخرى عندما اقبل على باريس أول
مرة في عام 1900.
رسم في المونمارتر، باسلوب متأنق نوعاً ما، أعمالا
أظهرت تأثير تولوز- لوتريك
وفويلار عليه.
وفي السنة التي تلتها بدأ الأزرق البارد يطغى على ملونته، فرسم نساءً باردات حزينات واطفالاً مرضى ومتسولين
مهزولين مسنين.
|
ثم انتقل، بعد ثلاث سنوات، من هذه الفترة الزرقاء الى الفترة الوردية ليصور لنا فيها المهرجين
والبهلوانيين والسركس الى المآسي البشرية
إلا قليلاً، على الرغم من أننا نجد هنا وهناك وجوها خانعة وأسارير لا تعرف الابتسامة إليها طريقاً.
وقد حل بيكاسو، بعد ان ترك أسبانيا نهائيا، في نزل في "باتو لافوار" المعروف في شارع
رافنيان في المونمارتر، وشرع بعدها بقليل تطوير التكعيبية، وألزم نفسه بتحديد نهجه واضحاً في هذا
السياق، حتى بدأ كأنه لن
يستطيع الحياد عنه أبداً. لكنه في عام 1917 بدأ يرسم صوراً شخصية على غرار أسلوب أنكر التقليدي، فهل كان ذلك يؤشر إلي إنكار تام
للإنجازات التكعيبية ؟ كلا، لقد تنقل
سنوات عديدة بين نمطين من التعبير، حتى حل عام 1921 فشرع يصور الأشكال الإنسانية بالأسلوب الكلاسيكي الجديد، نافخاً أجسامها
أحياناً بشيء من الوقاحة، ومعيداً
في الصور الأخرى بناءها من جديد مستعيناً على ذلك بأشكال من اختراعه. بعد ذلك حين نبذ "الكلاسيكية الجديدة" ثانية لينصرف
إلى أسلوب ذاتي اكثر فأكثر، كان ما
يزال يتبنى اشد النزعات تناقضاً، فهو يتوالي متزناً وممزقا، كيساً ومتوحشاً، ودوداً وشرياً، لكنه يبقى هو نفسه دائماً.
هذا التنوع غالياً ما يفسر لدى الفنان المغمور بأنه دليل نقص في قناعته وموقفه، لكن لدى بيكاسو
كان
دليلاً على الاتساع والغنى والعبقرية، بفضل حيويته
المتجددة والنضارة المستمرة والقلق المتواصل.
لقد كان أيضا ثمرة الرغبة المعتملة فيه أبداً للتعبير
عن
نفسه بحرية تامة، فبيكاسو قد يكون الفنان الوحيد في
عصرنا الذي يفعل بالضبط ما يشاء ومتى يشاء.
وفي مجتمع يتطور سريعا نحو تنظيم الحياة وبرمجتها وفق
قواعد صارمة و"يمقيس"
العقول، فان موقفاً كموقفه يبدو مروعاً واستفزازياً لا محالة.
أن ما كان يسعى إليه بيكاسو قبل كل شئ هو قوة التعبير،
الإفصاح القاطع المؤثر. لم يحاول
قط أن يجذبنا إليه، ولم يكن ليخطر على باله أن يجعل من فنه " مهدئاً يريح الذهن" كما فعل ماتيس. بعيداً عن هذا، أحب أن يثيرنا، أن
يقلقنا، أن يهزنا من الأعماق.
ان ألوانه تتعارض اكثر مما تنسجم ، وتكوينات معظم أعماله مثيرة بسبب ازدرائه "الجمال" وبسبب معالجته الفظة
العابرة، وهجوميته، فلحظة القدرة على ا ن يمتلك ليونة ماكرة، وله القدرة أيضا على أن يكون صلباً، مفاجئاً،
فولاذياً، خشناً.
بيكاسو، باختصار، تعبيري سن نهجاً، يفضل تجربته
التكعيبية، اكثر ثورية من
التعبيرية، فعشقه للحرية قادة إلى خوض التجربة مع الشكل، ليرى المدى الذي يستطيع أن يبلغه دون ان ينزلق في هوة الإسراف غير المبرر. وقد
ننكر ما تراه أعيننا فندعي: بأنه لم
يسقط فعلاً بسبب انغماسه المفرط ذلك، فجزء من فنه نوع من اللعبة دون جدال، انه قاس تارة ومسل تارة أخرى. لكن هناك عدد لا يحصى من
رسومه، في كل مرحلة من مراحله، يدلل على
عمق مشاعره وحيوية أفكاره.
في عام 1937 برز في فنه اتجاه جديد، وكان دافعه سياساً صرفاً : الحرب الأهلية الأسبانية، فحتى ذلك الحين
كان
بيكاسو منهمكا بمشكلاته الفنية والشخصية، أما الآن فصار
همه شعب بأكمله حفزة بالقدر ذاته، وبعد القصف
الوحشي الذي تعرضت له البلدة الصغيرة "غرنيكا" بالطائرات الفاشية، رسم ، كصرخة احتجاج، أحد أشد أعماله الفنية إدانة - يمثل أقصى
ما أوحى به الرعب الناجم من الدمار
في أي مكان.
|
بعد هذا ليس عجباً أن يتخذ بيكاسو موقفا منحازا من
الحرب العالمية الثانية، فمنذ ذلك الوقت شرع يرسم سلسلة من النساء الجالسات بوجوه مشوهة بوحشية،
تحمل في ملامحها اقسى صنوف العذاب والحزن التي حلت بالبشرية في تلك السنوات المروعة.
أن فن بيكاسو ليس فناً مقطراً في المختبر، انه فن مرتبط فن ملتزم،
ملتصق بحياة الفنان نفسه، ويعبر لنا بصدق عن حماسات حياته، وسورات غضبها، ومسيراتها واحباطاتها،
ومراراتها.
انه يعبر أيضا عن إرادة لا حد لها للقوة، فكل شئ يلمسه بيكاسو
عليه أن يحوله حالة أخرى، أن يجعله شيئاً خاصاً به وحده لا يتسنى له أن يوجد لولاه حتى ولو اضطر إلى
ليه واغتصابه
وتقويضه.
مع ذلك هو حين يهدمه فانه لا يقصد جمع أشلائه من جديد، بل تشييد
بناء جديد حيث تمنح الأشياء حياة جديدة، اكثر إثارة واكثر تعبيراً واكثر استحواذاً من ذي قبل.
ولا مناص لنا من الاعتراف أن هناك كبرياء شامخة وراء هذا السلوك،
كما أن هناك بالقدر ذاته كبرياء شامخة في إنسان العصر الذي لا يتوقف عن زعزعة النظام الطبيعي، وتكييف
العالم إرضاء لرغباته وحاجاته، اكثر فأكثر، بالصورة التي تحلو له. ب
هذا المنظار، يعكس بيكاسو أحد أقوى النوازع الإنسانية في القرن
الحالي، فهو بصراحة تكاد تكون وحشية، يرينا الجانب المتفوق لتلك النزعة، لكنه يجعلنا نحسن، عن إقناع،
بالقلق الذي توحي به الأسئلة المعذبة التي تواجه الإنسان وهو في عز سطوته وانتصاراته.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى