- daunya2001
- الجنس :
عدد المساهمات : 90 نقاط التميز : 4608 تاريخ التسجيل : 06/02/2013 العمر : 23 الموقع : بلد الاحرار
الحكم التكليفي
الجمعة 1 مارس - 15:52
خلَافة العلماء للرسل عليهم السلَام فِي حَمل العلم الرسالي : الْإلَهي الخبري ، فيدور بين الْإثبات والنفي ، والشرع الإنشائي ، فيدور على الأحكام التكليفية من إيجاب وندب فِي شق ، وتحريم وكراهة في شق آخر ، وبينهما إباحة بِها تكتمل القسمة العقلية فلَا اقتضاء فيها بإلزام كما في الإيجاب والتحريم ، أو ترجيح بلا إلزام كما فِي الندب والكراهة فمعنَى التخيير فيها يثبت بالنظر فِي عينها المجردة دون ما يحتف بِها من قرائن تصرفها إلى حكم آخر ، تلك الخلَافة في هذا الشأن الجليل : أشرف خلَافة ، فالعلماء حَملة أشرف العلوم التِي بها يَحصل مراد العقلَاء جَميعا من السعادة فِي الحال والنجاة في المآل ، فذلك مَحل إجْماع ، فالعقلَاء قد أجْمعوا على حُسْنِ الراحة والنعيم ، وأجَمعوا مع ذلك أن النعيم لَا يدرك بالنعيم ، فلَا ينال إلَّا على جسر من التعب ، فـ : (إِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) ، فذلك من إحسان العمل بالتعب والنصب فِي إقامة شعار الدين بامتثال أمره ونَهيه ، وإن كانت المشقة غَيْرَ مرادة فِي الحنيفية السمحة فهي مِمَّا يَعْرِض ولَا يطرد ، فلَا ينفك عمل ، وإن فِي الدنيا ، بل وإن فِي استيفاء الحظوظ النفسانية من جاه ورياسة .... إلخ ، وتَحصيل اللذات الجسدية من مطعم ومشرب ومنكح ..... إلخ ، فلها أسباب يجتهد أصحابها في تحصيلها فتفنَى لِأجلها أعمار ، وتنفق فِي سبيلها أموال ، وتعالج لِأجلها أهوال ، فثم من بلغت به الهمة فِي تَحصيل أمور الدنيا أن هجر بلده التِي فيها نشأ ، وترك أهله وولده ، واحتمل من الوحشة والغربة ما احتمل ، وجاهد فِي تَحصيل أسباب الدنيا ما يَحسن من باب : "مَنْ أَمْسَى كالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ" ، ويقبح من باب : "إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ جِيفَةٍ بِاللَّيْلِ حِمَارٍ بِالنَّهَارِ عَالِمٍ بِأَمْرِ الدُّنْيَا جَاهِلٍ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ" ، فلا ينفك عمل عن مشقة يكابدها العامل لينال ثَمرة العمل ، ولَا تنفك غاية ، علت أو دنت ، شريفة أو خسيسة ، لَا تنفك عن وسيلة تبذل لنيلها ، فالوسيلة تبع للمقصد ، من جهة التلازم العقلي ، فلَا تَحصل غاية بلَا وسيلة تبذل فهي السبب الذي ينتج الْأثر ، فتلك متلازمة عقلية ضرورية تضاهيها متلازمة أخرى في الحكم بالحسن أو القبح ، بالحل أو الحرمة ، فالوسائل تبع لِمقاصدها في هذا الباب ، ولذلك يأخذ المباح الواحد ، الحكم بالحل بل وبالندب المرجح بل وبالإيجاب المحقق ! ، فَتَتَرَجَّحُ فيه جهة الفعل على جهة الترك سواء ألزم أم لم يلزم فجهة الترجيح إجبارية ملزمة في الإيجاب ، واختيارية راجحة بلا إلزام في الندب بالنظر فِي الْآحاد لا فِي الجنس العام ، بل وثم من أفراده ما يلحق الذم تاركه فإليه يتوجه اللوم ، إذ ترك ما لَا يليق بأصحاب الديانات والمروءات تركه ، وإن لم يكن ثم وعيد في الآخرة على ذلك فلا ينفك عن نقص في الورع أو المروءة ، فليس كل ما يباح يفعل ، فثم من المباح ما يزري بصاحبه ، وذلك أمر يتفاوت تبعا للتفاوت فِي حال الفاعل ، فيقبح من فاعل ما لا يقبح من آخر فيقبح من ذوي الْهيئات والولَايات العامة ، لَا سيما الدينية فهي الْأشرف ، يقبح منهم ما لَا يقبح من آحاد المكلفين ، فلكل مقام مقال وحكم ، فليس المباح ، وإن مأذون الفعل في الجملة ، ليس بمأذون الفعل مطلقا ، فقد يقبح إن أزرى بصاحبه ، بل وقد يحرم إن توسل به صاحبه إلى محرم ، فما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه ، فتركه يتعين ، وإن كان مشروعا فِي أصله ، فهو مشروع الْأصل ، فجنسه لَا يحرم ، وإن كان ، كما تقدم ، قد يقبح في مواضع تزري بصاحبها وإن لم يتعلق بِها وعيد عام في الآخرة فلا تنفك عن وعيد فِي الأولَى بذم ونقص فِي المكانة والمهابة فتلك عقوبة كونية لِمن حاد عن الطريقة الشرعية ، ولو بترك الْأولَى فَيَنَاله من شؤم مخالفة الشريعة ولو بالعدول عن الفاضل إلى المفضول المشروع أيضا فليس بِمحرم وإنما هو أدنَى في المشروعية ومع ذلك لا ينفك صاحبه بما قدر رب البرية ، جل وعلا ، بحكمته البالغة من التفاوت في الحكم تبعا للتفاوت في الوصف فيكون الحكم العام واحدا فهو مباح مأذون في فعله أو تركه ومع ذلك يتفاوت الحكم في نفسه فيكون محمودا في حق مكلف مذموما في حق آخر وبينهما من المراتب ما يعسر عده فَلِكُلِّ مكلف من الحال والهيئة ما يباين غيره ، فذلك ، عند التدبر والنظر ، من جنس التفاوت في الإيمان الواجب ، فلا يحصيه إلا الرب الحكيم العالم ، تبارك وتعالى ، ويتفاوت الحكم ، أيضا ، من جهة الترجيح ، فثم مشروع ، وثم ما هو أولَى وآكد في المشروعية ، فيقدم الْأولَى عند التعارض وتعذر الجمع ، فيقع التزاحم بين المباحات والمأمورات ، سواء أكانت مندوبات أم واجبات ، فيقدم المأمور على المأذون في فعله إذنا عاما يستغرق المباح وما يليه من المندوب والواجب ، وهما مع ذلك يفارقانه من جهة الطلب ، فجهة الفعل الْإيجادي فيهما تترجح إما على سبيل التخيير في المندوب ، وذلك إنما يكون بالنظر في الآحاد دون الجنس العام ودون آحاد بعينها يقبح من المكلف تركها فجهة الندب فيها تتأكد ، فهي سنن مؤكدة ، بل قد يبلغ الخلَاف فِي حكمها حد الترجيح بين الندب والإيجاب ، ولو على حد الفرض الكفائي ، كما في الأذان ، فهو من شعار الدين الظاهر ، فِبِه تُمَيَّزُ الدور ، فلَا يعلو الْأذان إلَّا فِي دار يظهر فيها رسم الْإسلَام ، وإن لَم تكن دار إسلَام من كل وجه ، فقد تعطل فيها الشرائع فليست بدار إسلَام من هذا الوجه ، لَا سيما على قول من جعل الدار بأحكامها ، ومع ذلك يظهر في حال أهلها من رسوم الْإسلَام فِي الشعائر والعوائد وفِي تعظيم الدين وأهله ، وفِي قبول الشريعة الحكمية ، ولو إجْمالًا ، يظهر في حال أهلها ما يثبت به لَهم عقد الْإسلَام فتكون الدار مركبة من هذا الوجه ، فالْأذان ترجح فيه جهة الفرض الكفائي إظهارا للشعار الْإسلَامي ، وإن كان ثَمَّ خلَاف ، كما تقدم ، فبعض يلحقه بالسنن المؤكدة ، فليس سُنَّة كَبَقِيَّةِ السنن ، فجهة الندب فيها آكد ، بل قتال من هجرها فِي الجملة يتعين ، وذلك ، كما يقول بعض المحققين ، ما يَجعل الخلَاف نظريا ، فالذم والزجر بل والتأديب بالقتال لِمن ترك هذه الشعيرة الظاهرة ، كل أولئك مِمَّا وقع الْإجْماع عليه فلَا تستوي بداهة وآحاد السنن التِي لَا يلَام تاركها ولَا يذم ، فضلًا أن يعاقب ، وإن حصل له النقص من جهة فوات الفضل ، لَا سيما إن اطرد من حال المكلف تَرْكُهُ ، فذلك ، كما تقدم ، مِمَّا يقدح فِي مروءة فاعله ، بل ولَا ينفك في العادة عن نقص فِي الواجب ، فالمندوب سياجه ، فمن خرق السياج فهو يوشك أن يطأ الحمى ، فيقع فِي المحظور ، كما فِي خبر المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "مَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ" ، فالسنن ، كما تقدم ، تتفاوت ، فثم جنس عام هو جنس المندوب ، فينقسم في الخارج إِلَى أنواع فثم مندوب مؤكد ، فجهة الفعل فيه أرجح من المباح المحض ، ابتداء ، فجهة الفعل والترك في المباح سواء ، بالنظر في عين المباح لذاته ، فلا ينفك يدور على بقية أحكام التكليف بما ركز في النفس من الحس والإرادة والحركة فلَا تتحرك النفس إلَّا لتحصيل ما يصلح شأنها ، ولو فِي اعتقادها الجازم كما فِي أصول الديانات من العلميات والعمليات وذلك أمر لا تنال فيه السلَامة ، كما تقدم مرارا ، إلَّا بالوقوف على حدود الوحي الذي أبان بالمنطوق الصحيح والمفهوم الصريح عن أصول الدين وفروعه ، فالنقل الصحيح هو العمدة فِي الدين عموما ، وفي أصوله العلمية الخبرية خصوصا ، بل وفِي كل خَبَرٍ لَا يدركه العقل ، فهو غيب مَحض ، فلَا يَمتنع فِي الذهن من جهة الجواز العقلي ، وذلك قدر لَا يكفي فِي ثبوت الشيء ، فلَا يجزئ الجواز العقلي في حصول الشيء بل لَا بد من قدر زائد يوجب الجائز ، ولَا يكون ذلك فِي الشرعيات إلَّا بكلمة شرعية صادقة ، ولَا يكون ذلك فِي الكونيات إلَّا بكلمة كونية نافذة ، فالشيء في نفسه قد يَجوز فلَا يَمتنع ، وهو ، مع ذلك ، لَا يثبت فِي الخبريات إلَّا بوحي ، ولَا يَحصل فِي الكونيات إلَّا بأمر ، فلَا يكون شيء فِي الشرع أمرا أو نَهيا ، إباحة أو حظرا ، إلَّا ببلَاغ صادق من كتاب شارع يَحمله رسول ناصح يروم هداية الخلق ، فـ : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، بل ويَحرص عليها حتى يعاتب فيها ، فـ : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ، ولَا يكون شيء فِي الكون إلَّا بأمر تكوين من الرب الجليل المجيد ، تبارك وتعالَى ، فـ : (مَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ، فهو أمر تسمعه الملَائك فتصعق ، ثُمَّ تُفيق ، فـ : (إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ، فتعمل به ، فـ : (الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) ، فذلك خصوص فِي مواضع ، و : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، فذلك عموم يستغرق جَميع أوامر التكوين ، فإضافة الأمر إلى الضمير ، وهو يرجع إلى الرب الخالق المدبر ، جل وعلَا ، تلك الْإضافة مئنة من العموم ، كما قرر أهل الأصول ، فتعم جَميع الحركات الكونية فلكلٍّ ملك يقوم بأمرها ، ولَا يُخالف فِي نفس الْآن عن أمر ربِّها ، جل وعلَا ، فالمخالفة عن أمره فِي الكون مُحالة ، فذلك مقام الربوبية العامة في الخلق والتدبير ، فليست إلَّا للرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالَى ، فهو الذي يَرُبُّ الكون ويرعاه بأحكام الجمال فِي البسط ، وأحكام الجلَال فِي القبض ، فَلِكُلٍّ حكمة بِها يستقيم أمر الكون ، فـ : (لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ، فالمخالفة فِي أمر الكون ، كما تقدم ، مُحالة ، ولو سلم بِجوازها فرضا عقليا مَحضا من باب التَّنَزُّلِ مع الخصم فِي الجدال ، فهي ذريعة إلَى فساد الكون ، فـ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، فإذا تعددت الْآلِهة في التكوين جاز التعارض بل ووجب ، فلكل أمر ، فثم من يأمر بحركة جسم : أن تَحرك ، وثم من يأمر بضدها : أن اسكن ، فيقع التعارض بل والتناقض ، فالجسم لَا ينفك عن حركة أو سكون ، فإما أن ينفذ الْأمران جَميعا ، وذلك مِمَّا يَمتنع فِي العقل والحس ففيه جَمع بين المتناقضين ، وإما أن يَمتنع الْأمران جَميعا ، فلَا سكون ولَا حركة ! ، وذلك مِمَّا يَمتنع فِي العقل والحس ، أيضا ، فارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، فكلَا الأمرين مُحال ذاتِي فِي العقل والحس ، فلَا تنفك الحال عن احْتِمَالَيْنِ : أن ينفذ أمر أحدهما ولا ينفذ أمر الآخر ، فيكون الأول هو الرب القاهر بالْأمر الكونِي النافذ ، ويكون الثَّانِي مَرْبُوبًا خاضعا لِلْأول فمقام الربوبية مقام تفرد لَا يَحتمل الشركة أو التَّثْنِيَة ، فـ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، كما تقدم ، والْاحتمال الثانِي : أن يكونا مربوبين خاضعين لآمر أعلى ، فهو الرب القاهر بأمر كونِي لَا راد له ولَا معارض ، فـ : (اللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، فمقام الربوبية ، كما تقدم ، مقام لَا يقبل الشركة فإيجاب الْانفراد فيه : إيجاب عقلي صريح تشهد له أدلة الحس السليم ، إذ انتظام أمر الكون على هذا الوجه المحكم مئنة من تدبير رب واحد لَا تعارض فِي أمره ولَا تناقض ، فتلك مُمَانعة فِي الربوبية ، وهي واجبة فِي الشرع والعقل معا ، فأدلتهما ، كما تقدم مرارا ، تتكامل وتتعاضد ، فلَا تتعارض ولَا تتناقض ، فنص الوحي الصحيح لَا يعارض ، بداهة ، قياس العقل الصريح ، والممانعة فِي الربوبية ، كما تقدم مرارا ، لَا تنفك عن مُمانعة فِي الْألوهية ، فإذا كان الرب الخالق المدبر واحدا فبأمره الكوني ينتظم أمر العالَم ، فالرب الشارع الحاكم واحد ، أيضا ، فـ : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ، فتلك متلَازمة صحيحة بل وضرورية فِي الشرع وفِي العقل وفِي الفطرة وفِي الحس وَفِيمَا شئت من شيء بعد من أدلة الْإثبات الصحيحة الصريحة ، فـ : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فتلك الممانعة فِي الخلق والتكوين ، فهي مُمَانعة في الربوبية تستلزم ضرورة الممانعة فِي الْألوهية والحاكمية ، مُمَانَعة : (فَاعْبُدُوهُ) ، وذلك أمر قد أطلق فَيَعُمُّ جَميع موارد التعبد الخاص والعام ، العقدي بالتوحيد ، والتعبدي بالصلَاة والزكاة ..... إلخ من الشعائر والعبادات الظاهرة فهي ، كما تقدم مرارا ، آية التصديق الظاهر لِما يقوم بالنفس من عقد التوحيد الباطن ، والتشريعي ، والسياسي الحكمي .... إلخ ، فالعبادة ، أيضا ، جنس عام تنقسم موارده فِي الخارج ، فمنه المراد لذاته فعلًا من الواجب والمندوب ، ويلتحق به المباح إن أريد إرادة الوسائل ، فيلحق بالغاية إباحة أو حظرا ، فما لَا يتم الواجب أو المندوب إلا به فهو مشروع ، فإما أن يشرع واجبا على جهة التفصيل بالنظر في أعيان الأحكام الجزئية الخاصة ، كتحصيل الماء للوضوء استباحة للفرض ، وإما أن يشرع واجبا على جهة الإجمال بالنظر في المقاصد الكلية العامة ، كإيجاب الأكل والشرب على جهة العموم دون نظر في آحاد الفعل فهي مباحة بالنظر في أعيانها ، ما لم يكن المطعوم أو المشروب خبيثا محرما ، فَيُرَادُ الْأكل والشرب على جهة العموم حفظا للنفس ، فذلك مقصد رئيس من مقاصد التشريع ، وقل مثل ذلك فِي النكاح فهو يجب على جهة العموم حفظا للنوع بالتناسل ، فذلك ، أيضا ، مقصد رئيس من مقاصد التشريع ، وإما أن يشرع مندوبا إن تَذَرَّع به المكلف إِلَى مندوب ، كتحصيل الماء للوضوء ، أيضا ، ولكن استباحة للنافلة ، راتبة أو مطلقة ، ورد النص عليها بعينها ، أم لَمْ يرد فالنص يدل عليها إجمالًا ، فالتفاوت ، كما تقدم ، يكون فِي آحاد المندوب فِي الخارج ، وإن اشتركت فِي الجنس الْأعلى فثم تفاوت فِي الندب تبعا للتفاوت فِي الفضل ، فالترجيح يلزم ، فثم ما اختلف فِي فرضه خلَافا يقوى كصلَاة العيد ، على سبيل المثال ، فهي فرض على الْأعيان فِي قول بعض أهل العلم كالحنفية ، رحِمهم الله ، وهي في قول ثان ، فرض كفاية ، فتجزئ صلَاة البعض عن صلَاة الكل ، وهي ، على قول ثالث ، سنة مؤكدة ، وذلك قول يدخل في القول الثاني ، ولو من وجه ، فلَا يخلو الفرض الكفائي من جهة ندب ، ولو مؤكدا ، فَثَمَّ ندب من جهة المسارعة إِلَى تَحصيل الكفاية التِي تَخرج بِها الجماعة من العهدة فتبرأ ذمتها بفعل بعض أفرادها ، فلَا ينفك هذا المعنَى عن ندب يثبت لِإصحابه من الفضل ما لَا يثبت لغيرهم ، وإن خرج الجميع من العهدة بِحصول الكفاية وإظهار الشعيرة بفعل بعضهم ، فذلك من جنس ما تقدم فِي مسألة الْأذان ، وثم ما كان الخلاف فِي إيجابه أضعف كصلَاة الوتر ، فهي واجب عند الحنفية ، رحِمهم الله ، والراجح أنها مندوبة ، وندبها ، مع ذلك ، يتأكد ، ففيها قدر زائد على بقية السنن الرواتب أو المطلقة من باب أولى ، فهي وسنة الفجر آكد السنن إذ لم يتركهما صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فِي حضر أو سفر ، فحصل التقسيم فِي المندوب مع اشتراك أفراده فِي الجنس العام ، وذلك أمر يعم جَميع الْأحكام ، فالْإيجاب تتفاوت آحاده فثم واجب وثم أوجب ، وقل مثله في التحريم فثم محرم وثم أشد تحريما ، وفي الكراهة فثم مكروه وثم أشد كراهة .
فذلك تقسيم يدخل في تقسيم العبادة ، من وجه ، فمنها ، كما تقدم ، ما أريد لذاته من واجب ومندوب فعلا ، ومحرم ومكروه تركا ، ومنها ما أريد لغيره كالمباح يتذرع به إلى غيره ، ومنها الباطن كالتوحيد عقدا والخشية والخضوع .... إلخ من أعمال القلب الباطنة ، ومنها الظاهر كالشهادة والذكر نطقا ، والصلاة والزكاة فعلًا ، ومنها الخاص كالعقائد والشعائر ، ومنها العام كالشرائع والسياسات فكلها تدخل في حد الممانعة في الألوهية والحاكمية ، فإذ قد ثبت أن الرب ، جل وعلا ، هو المنفرد بالربوبية ، فهو الخالق الرازق المدبر ، فيجب إلزاما أن يفرد بالْألوهية والحكم .
وكل أولئك ، كما تقدم ، مِمَّا لَا يعلم إلَّا من جهة الوحي ، فالرسل ، عليهم السلَام ، حَملته إلى البشر تبليغا وتبيينا ، وخلفاؤهم من العلماء هم ورثته ونقلته فحفظوا لفظه من التبديل وحفظوا معناه من التحريف ، فلهم الشكر الجزيل ، من وجه ، وعليهم الفرض العظيم ، من وجه آخر ، فلا يسعهم من السكوت عن البيان ما يسع آحاد المكلفين ، فالبيان في حقهم آكد وأوجب إذا قد قامت الحاجة إليه لا سيما في أعصار الفتن والشبهات التي تقدح في أصول الديانات فضلا عن كمالها ! .
والله أعلى وأعلم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى