العولمة وأثرها على اقتصاديات الدول الإسلامية
الجمعة 13 مايو - 10:31
أصبحت العولمة (MONDIALIZATION) من اكثر الكلمات استخداماً في الأدبيات المعاصرة. وقد تم تعريف العولمة على أنها إكساب الشيء طابع العالمية، وجعل نطاقه وتطبيقه عالمياً، وأضحت ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة، فهي تستقطب اهتمام الحكومات والمؤسسات ومراكز البحث ووسائل الإعلام. وتعاظم دور العولمة وتأثيرها على أوضاع الدول والحكومات وأسواقها وبورصاتها ومختلف الأنشطة الاقتصادية فيها.
ويعرف الدكتور إسماعيل صبري عبد الله العولمة والتي يفضل أن يستخدم مكانها مصطلح الكوكبة على إنها: (التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية)(1).
ولا أعلم لماذا ابتعد الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عن المفهوم الدقيق للعولمة؟ والذي يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره بعمق لا بل هيمنة النمط الأمريكي سيما وهو يقر بأن الرأسمالية كنمط إنتاج تتغير ملامحها وأساليبها في الاستغلال عبر الزمن، كما أنه يربط بين نشأة العولمة وانتشار الشركات متعددة الجنسية.
يتلازم معنى (العولمة) في مضمار الإنتاج والتبادل: المادي والرمزي مع معنى الانتقال من المجال الوطني، أو القومي، إلى المجال الكوني في جوف مفهوم تعيين مكاني جغرافي (الفضاء العالمي برمته)، غير انه ينطوي على تعيين زماني أيضاً، حقبة ما بعد الدولة القومية، الدولة التي أنجبها العـــصر الحديث إطارا كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وقد يستفاد من ذلك أن المنزع الراهن نحو إنفاذ أحكام العولمة، إذ يضع حداً لتلك الحقبة، يدشن لأخرى قد لا تكون حقائق العصر الحديث ـ السائدة منذ قرابة خمس قرون ـ من مكونات مشهدها، وبالتالي يرسي مداميك ثورة جديدة في التاريخ، ستكون قوتها ـ هذه المرة ـ المجموعة الإنسانية بدل الجماعة الوطنية والقومية(2).
العولمة وفقاً لتحليل البعض فانها تعني: وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج واعادة الإنتاج ذاتها، أي إن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضا، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره، قد تمت. بعبارة أخرى، أن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي ـ إلى هذا الحد أو ذلك ـ إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كليا في مجتمعات المركز ودوله. في الواقع لان عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق بلغت حد الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية كلها ـ باستثناء جيوب هنا وهناك ـ كان لابد لحركية نمط الإنتاج الرأسمالي وديناميكيته من أن تفتح أفقاً جديداً لنفسها وان تتجاوز حدوداً بدت ثابتة سابقاً على طريق نقلة نوعية جديدة بدورها تأخذ الآن الشكل المزدوج لعولمة دائرة الإنتاج ذاتها ونشرها في كل مكان مناسب تقريباً على سطح الكرة الأرضية، من ناحية وإعادة صياغة مجتمعات الأطراف مجدداً، في عمقها الإنتاجي هذه المرة وليس على سطحها التبادلي التجاري الظاهر فقط، من ناحية ثانية، أي إعادة صياغتها وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته.
ويصف الدكتور علي عقلة عرسان نتائج العولمة بأسلوب أدبي حين يقول(3): وهكذا نجد أن العولمة تفسح المجال واسعا أمام أصحاب رؤوس الأموال لجمع المزيد من المال على حساب سياسة قديمة في الاقتصاد كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدي إلى تحقيق ربح بينما اليوم فالاعتماد هو على تشغيل المال فقط دون مغارم من أي نوع للوصول إلى احتكار الربح، إنها مقولة تلخص إلى حد ما بعودة (شايلوك) المرابي اليهودي التاريخي محمّلا على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح لسيطرة القوة المتغطرسة، وعودته المدججة بالعلم والتقانة تقلب القاعدة القديمة القائلة: إن القوي يأكل الضعيف، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول السريع يأكل البطيء وسمك القرش المزود بالطاقة النووية ومعطيات الحواسيب وغزو الفضاء يستطيع أن يبتلع الأسماك الأخرى والصيادين الذين يغامرون إلى أبعد من الشاطئ.
يقضي منطق التطور الرأسمالي بالتوسع المستمر خارج الحدود هكذا بدأ أمره قبل قرون انتقلت الرأسمالية من حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي إلى عالم (ما وراء البحار) في عملية من الزحف الاستعماري واسعة، شملت معظم مناطق جنوب الأرض بحثاً عن المواد الخام واليد العاملة الرخيصة والأسواق وهكذا تجدد قبل قرن حين خرج النظام الرأسمالي العالمي من طور (المزاحمة)أو (المنافسة الحرة) إلى طور الاحتكار الطور الإمبريالي. واليوم،في سياق الثورة التقانية الكبرى، يبلغ التوسع الرأسمالي ذراه، فيطيح بحدود جديدة، الحدود القومية داخل المعسكر الرأسمالي الميتروبولي نفسه. بعد أن أطاح منذ زمن بعيد بحدود المجتمعات التابعة المنتمية إلى منظومة الجنوب. إن هذا النمط الجديد من التوسع،اليوم، هو ما يطلق عليه اسم العولمة، وسمته الأساسية هي توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حداً فيه لكل أنواع السيادة. ولقد بدأت علائم هذا المسار منذ ميلاد ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات، قبل ع.....، لتصل اليوم إلى نظام التجارة الحرة الذي أقر دولياً، بعد مفاوضات (الغات) ووقع التعبير عنه مؤسسيا في منظمة دولية تحمل الاسم ذاته، وفي قوانين وتدابير يلغي مفعولها مفعول القوانين المرعية في الدول الوطنية(4).
لقد أدت الولايات المتحدة دوراً رئيساً في دعمها للرأسمالية وفي ظفر هذه الأخيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ففضلا عن كونها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اكبر سوق واكبر دولة مصدرة في العالم، جعلت الولايات من بناء اقتصاد عالمي رأسمالي حجر أساس في توجهها على الصعيدين السياسي والاقتصادي الدولي ولما كانت اكبر دولة مصدرة فان لها مصلحة إذاً في الإنماء الاقتصادي على الصعيد العالمي لكونه يغذي نموها الاقتصادي. وكي تحافظ على أنظمتها ومؤسساتها الرأسمالية في وجه التهديدات التي تكونها أنظمة اجتماعية اقتصادية أخرى وأهمها الشيوعية السوفيتية أنفقت الكثير على انتشار اقتصاديات رأسمالية في بلدان أخرى وعلى الأخص لدى عدويها السابقين ألمانيا واليابان وفي بلدان أخرى في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرقي آسيا بالإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية والى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا بالإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية والى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا استعملت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لمناطق أخرى في العالم النامي وتعزيزاً للمؤسسات والاقتصادات الرأسمالية حيثما أمكنها ذلك(5).
ثانياً: العوامل التي أدت إلى ظهور العولمة
بعد انهيار الشيوعية وانفجار الاشتراكية من الداخل، وتفكك اليمين التقليدي، خرجت الليبرالية الجديدة باسم العولمة لتغزو كل الدول، وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتطيح بالأنظمة، لتعزيز حرية المبادلات التجارية، مما أدى إلى تباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي... فمن أصل 1500 مليار دولار تدخل العمليات اليومية على الصعيد العالمي هناك 1% فقط يوظف لاكتشاف ثروات جديدة ويُدوّر الباقي في إطار المضاربات(6).
ما هي العوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة العولمة في الوقت الراهن؟ وهل هذا يرجع إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة؟ وهل العولمة تتضمن زيادة التجانس أم تعميق الفوارق والاختلافات؟ وهل الهدف هو توحيد العالم أم النظم المجتمعية عن طريق الحدود المصنوعة؟ وهل العولمة تنطلق من مصادر رئيسية واحدة، أم تنطلق من مصادر متنوعة ومتداخلة؟ وهل تنطلق من عوامل اقتصادية وإبداع تقاني أم من خلال الأزمة الايكولوجية؟ وهل هي عبارة عن اتحاد لكل هذه العوامل أم أنه لا تزال هناك أبعاد أخرى؟ وهل العولمة تتميز بوجود ثقافات عامة أم مجموعة من الثقافات المحلية المتنوعة؟ وهل العولمة غامضة، أم أنها تحول بارز على المدى الطويل بين العام والخاص، وبين المحلي والخارجي، وبين المغلق والمفتوح؟ وهل هي استمرار لنمو الفجوة بين الفقراء والأغنياء على جميع المستويات؟ وهل العولمة تتطلب وجود حكومة عالمية(7)؟ إن جوهر عملية العولمة يتمثل في تسهيل حركة الناس وانتقال المعلومات والسلع والخدمات على النطاق العالمي. وتشمل الحركة والانتقالات التي تنتشر عبر الحدود ست فئات رئيسة وهي: البضائع، الخدمات، الأفراد، رأس المال، الأفكار، والمعلومات والمؤسسات.
ويهدف النظام الرأسمالي الذي يحكمه قانون تعظيم الأرباح الخاصة إلى التوسع وذلك عبر استثمار أرباحه والحصول على قروض من أسواق الرساميل. فإذا لم يتوسع يتعرض للركود والكساد والأزمات الدورية، والأمثلة التاريخية على هذه الأزمات كثيرة ومعروفة. ويؤدي التوسع إلى ظهور المنشآت الاقتصادية الكبرى عبر تركز وتمركز رأس المال(Cool. ومن أهم آليات تحقيق ذلك عمليات الدمج بين المنشآت الكبرى أو استيلاء منشأة كبرى على منشأة أصغر منها عن طريق الشراء أو غير ذلك. كما انه في عملية التوسع تتراكم فوائض مالية لا تجد أحياناً مجالات مربحة في استثمارات حقيقية تؤدي إلى زيادة الإنتاج والتجارة، بل تجد هذه الفوائض مجالاتها المربحة في المضاربة ضمن إطار الدولة الواحدة. كما أن هذه الفوائض تضغط لتأمين حرية انتقالها من دولة إلى أخرى عبر إزالة القيود على حركة الرساميل. ومن الواضح أن أهم سمة للنظام الرأسمالي العالمي الراهن هو ما يسمى بـ(العولمة) المالية(9).
يمثل النظام الاقتصادي المعاصر مرحلة جديدة من مراحل تطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وقد يكون من الممكن تسمية هذه المرحلة بـ(العولمة) كما هي محددة أعلاه، أو اقتصادا دوليا أكثر تكاملاً واندماجاً.
يتسم النظام الاقتصادي العالمي المعاصر بعدد من الخصائص أهمها:
1. انهيار نظام بيريتون وودز.
2. تزايد دور وأهمية الشركات متعددة الجنسية في الاقتصاد العالمي.
3. تزايد دور وأهمية مؤسسات العولمة الثلاث (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة).
4. عولمة النشاط الإنتاجي.
5.عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال.
6. تغيير مراكز القوى الاقتصادية العالمية.
7. تغيير هيكل الاقتصاد العالمي وسياسات التنمية.
8. تراجع أهمية ودور مصادر الطاقة التقليدية والمواد الأولية في السوق العالمية.
يرى الاقتصادي المعروف الدكتور رمزي زكي(10)، إن أهم البصمات بروزاً في الاقتصاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة هو التدويل المطرد الذي اصبح يتسم به الاقتصاد العالمي، ويظهر التدويل في نظرة أولية كبروز متعاظم لدور العلاقات الاقتصادية الدولية. بالمقارنة مع النشاط الاقتصادي على الصعيد المحلي أو الوطني. وهذا واضح من خلال الدور المتعاظم الذي تقوم به وت.....ه الشركات متعددة الجنسية العملاقة التي تمتد نشاطاتها وفروعها إلى مختلف أنحاء العالم، وتسيطر على شطر كبير ومتنام في عمليات إنتاج وتمويل وتوزيع الدخل العالمي مع العلم أن هذا الدور يكون أحيانا غير مباشر وغير ظاهر، فاصبح من الممكن الآن الحديث عن مستوى اقتصادي عالمي متميز بآلياته ومشكلاته وآفاق تطوره على المستويات الوطنية، وتصبح النظرة للعالم باعتباره الوحدة الاقتصادية الأساسية.
والعولمة الاقتصادية أخذت أبعادها في المرحلة الراهنة بانتصار القوى الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وانهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية، فاستعاد النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي هيمنته وانتشاره بدينامية جديدة مؤسسة على اقتصاد السوق والموجة الثالثة (ثورة المعلوماتية) وإدماج القسم الأعظم من الاقتصاديات الوطنية بالسوق الرأسمالية العالمية، بحيث أصبحت هذه الاقتصادات أسيرة لمفاهيم السوق والمنافسة الاحتكارية التي تتحكم فيها القمم الاقتصادية العملاقة، متخطية الحدود والقيود، مستندة إلى قوى السوق وبأشراف مؤسسات العولمة الاقتصادية الثلاث، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمنظمة العالمية للتجارة خليفة (الغات).
وتبدو ملامح العولمة في الاقتصاد من خلال المظاهر التالية:
ــ الاتجاه المتزايد نحو التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية الهائلة.
ــ تنامي دور الشركات متعددة الجنسية (عبر القومية) وتزايد أرباحها واتساع أسواقها وتعاظم نفوذها في التجارة الدولية.
ــ تزايد دور المؤسسات المالية الدولية بشكل مباشر وبخاصة في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلي في الدول النامية (التحول إلى اقتصاد السوق).
ــ تدويل بعض المشكلات الاقتصادية مثل الفقر، التنمية المستدامة، السكان والتنمية، التنمية البشرية، التلوث وحماية البيئة، والتوجه العالمين لتنسيق عمليات معالجة هذه المشكلات والتعاون في حلها.
ــ تعاظم دور الثورة التقنية الثالثة وتأثيرها في الاقتصاد العالمي (التغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج).
ــ بروز ظاهرة القرية العالمية، وتقليص المسافات نتيجة لتطور وسائل النقل والمواصلات وزيادة الاحتكاك بين الشعوب.
ــ تطور وسائل الإعلام وتأثيرها على طبيعة البشر وتطلعاتهم وسلوكهم، واثر ذلك على اختلاط الحضارات والثقافات.
ــ تعاظم دور المعلوماتية، والإدارة، والمراقبة من إدارة نظم المعلومات.
والجدير بالملاحظة أن تجد (العولمة) جوانبها التطبيقية في كافة المجالات باستثناء ما يتعلق بانتقال قوة العمل، ففي الوقت الذي تمارس فيه المراكز الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية التابعة لها مختلف أنواع الضغوط لتأمين حرية انتقال السلع والخدمات والرساميل، فإننا نجدها تضع مختلف القيود والعراقيل لمنع انتقال أو هجرة قوة العمل وبخاصة من الدول النامية إلى الدول المتقدمة. في حين اتصف القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بدرجة أكبر بكثير من حرية الهجرة، فمن المعلوم أن هجرة الأوروبيين إلى الأمريكيتين والى نيوزيلندا واستراليا وجنوب أفريقيا والى الكثير من أقطار العالم الثالث المستعمرة آنذاك مثلت صمام أمان للرأسمالية الأوروبية وساهمت في الحيلولة دون حدوث تغييرات اجتماعية كبيرة فيها بسبب البطالة المتفشية وانتشار الفقر والبؤس في تلك المرحلة(11).
عقب ما سببته الحرب العالمية الثانية من دمار، برز الاقتصاد الأمريكي كقوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي وقد استعلمت الولايات المتحدة موقعها القوي هذا بعد الحرب لخلق حلف دولي سياسي واقتصادي على أساس مساعدة ألمانيا واليابان وفي محاولة لإحداث نمو سريع في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرق آسيا لمواجهة التهديدات السوفيتية والصينية وتحققت منذ الخمسينات مستويات عالية من النمو في تلك المناطق. وقابلتها مستويات عالية أيضاً من النمو في الاتحاد السوفيتي. ومع بداية تراجع الأداء الاقتصادي السوفيتي في أواخر الستينات، أخذ تحد اقتصادي جديد يذر بقرنيه في شرق وجنوب آسيا على شكل سلع تصديرية رخيصة الثمن ورفيعة الجودة أخذت تغرق السوق الأمريكية، وتهدد بخلق عجز جدي في الميزان التجاري. وازدادت مشكلة الولايات المتحدة هذه بسبب ارتفاع أسعار النفط عامي 1973 و 1974 وبالصعوبات التي رافقت التحول من اقتصاد صناعي إلى آخر قائم على الخدمات والتقنية في حقل الإعلام والمعلومات. وقد استطاعت الولايات المتحدة، على الرغم من المشاكل الجدية التي واجهت اقتصادها في السبعينات والثمانينات من أن تتحمل عجزا ضخما في ميزانها التجاري وأجرت إعادة بنيان لاقتصادها، واستعادت في أوائل التسعينات المبادرة في القوة الاقتصادية. وفيما ظلت أوروبا الغربية تقاوم ارتفاع كلفة الانتاج فيها وارتفاع البطالة وعوائق أخرى، وفيما ظلت اليابان تتخبط في ركود اقتصادي منذ العام 1990 نهضت الولايات المتحدة واستعادت تفوق حصتها في الأسواق في صناعتي السيارات والكومبيوتر المهمتين وأعادت تأكيد موقعها على أنها اكبر سوق واكبر دولة مصدرة في العالم ولعل الأهم أنها بانفاقاتها وبتفوقها في الأبحاث في حقل التقنية الرفيعة والتطور وضعت نفسها في موقع جيد يخولها الاستمرار في السيطرة على الأسواق العالمية لبرامج الحاسوب وشبكة الاتصالات العالمية (إنترنت) في مطلع القرن الحادي والعشرين(12).
يقول توم فريدمان الأمريكي(13): نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، العولمة هي الامركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق. إن صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة.
ولكن العولمة بالمفهوم المعاصر (الامركة) ليست مجرد سيطرة وهيمنة والتحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، فهي تمتد لتطال ثقافات الشعوب والهوية القومية الوطنية، وترمي إلى تعميم أنموذج من السلوك وأنماط أو منظومات من القيم وطرائق العيش والتدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة (غربية أمريكية) تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، ولا يخلو ذلك من توجه استعماري جديد يتركز على احتلال العقل والتفكير وجعله يعمل وفق أهداف الغازي ومصالحه. وأكد ذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(14).
وعلينا نحن في أرجاء أخرى من العالم تحديد موقفنا من هذه الهيمنة الأمريكية ومواجهتها وعلينا نحن في الأقطار الإسلامية أن نقرر كيف سنواجه هذا التحدي ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين بأساليب يؤمل أن تكون أكثر نجاحاً من تلك التي واجهنا بها حملة نابليون على مصر في عام 1798، أو تلك التي قابلنا بها انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى(15).
مع ذلك فان موقع الولايات المتحدة القوى في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً لأن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب فمجمل اقتصاد أوروبا الغربية اضخم من الاقتصاد الأمريكي، وكذلك اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بوجه عام. كما أن الاقتصاد الأمريكي ما زال يواجه مشاكل جدية قد تهدد نموه في المستقبل ومن هذه المشاكل العجز في الميزان التجاري، وعلى الأخص مع شرق آسيا البالغ قرابة 160 مليار دولار في السنة وديون دولية متراكمة تربو على الألف مليار دولار وكانت الولايات المتحدة قد اعتمدت التسامح تجاه العجز التجاري على انه جزء من استراتيجيتها الرامية إلى تقوية حلفائها الرأسماليين عقب الحرب العالمية الثانية ولكن حجم العجز وثباته ابقيا الضغط على الدولار الأمريكي وبقي الخطر ينطوي على التسبب في انخفاض مفرط في قيمة الدولار لقد استطاع الدولار الحفاظ على مركز قوي نظرا إلى ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي والى غياب عملة بديلة قادرة على الاستمرار ولان اقتصاديات شرق آسيا يهمها بقاء الدولار قويا لتنشيط صادراتها الا أن استمرار العجز مشفوعا بنمو الاقتصاد الصيني نموا سريعاً علماً بان الصين تصدر سلعا كثيرة إلى الولايات المتحدة. لقد أدى العجز في الميزان التجاري إلى توسع الاستثمارات الأجنبية وخصوصاً اليابانية منها في الولايات المتحدة وكذلك إلى شراء قطاعات كبيرة من الاقتصاد الأمريكي ومنها العقارات والمؤسسات الصناعية والخدماتية كما أن الدين الخارجي البالغ ألف مليار دولار والمتوجب في أكثره لليابان يفرض نزفا مستمرا على الميزانية العامة ويحول دون توظيف موارد مهمة في الاقتصاد وفي الأنشطة الإنتاجية ولئن كان بالإمكان تحمل هذا الدين نظرا إلى الناتج القومي الأمريكي الذي يربو على السبعة آلاف مليون دولار فان هذا الدين يبقي معيقا للنمو السريع(16).
إن للعولمة أهدافا أبعد من الربح وأبعد من التجارة الحرة والحدود المفتوحة والأسواق الحرة، إن الخطر يكمن في ما يسمى بثقافة العولمة أكثر. تروج العولمة لأربع ثورات أساسية من المتوقع أن يكون لها تأثير كبير في حياة الناس جميعا وسط تحديات هائلة. وهذه الثورات هي(17):
1ـ الثورة الديمقراطية.
2ـ الثورة التكنولوجية الثالثة ـ أو ما بعد الثالثة.
3ـ ثورة التكتلات الاقتصادية وبخاصة العملاقة.
4ـ ثورة اقتصاد السوق وحرية التبادل التجاري، بعد قيام المنظمة العالمية للتجارة لتحل محل اتفاقيات الغات.
وفي إطار هذه الثورات وما ينتج عنها من آثار يتم بناء النظام العالمي (العولمة)، ويعتمد فيه الاقتصاد على استثمار الوقت بأقل تكلفة وعن طريق استخدام المعرفة الجديدة وتحويلها إلى سلع أو خدمات جديدة أو التحسين السريع والمستمر في المنتجات وطرق التصنيع والدخول بها إلى الأسواق بطريقة فعالة. ولم تعد التنمية الاقتصادية تعني التغيير من وضع سيئ إلى وضع أفضل بل المهم هو الوقت الذي يستغرقه هذا التغيير.
كيف تحدث العولمة؟ وبأي طريق أو من خلال أي قنوات تتم حركة وانتقال البضائع والخدمات والأفراد ورأس المال والأفكار والمعلومات والرموز والاتجاهات وأشكال السلوك عبر الحدود؟ وما هو دور الشركات متعددة الجنسية في ذلك؟
في رأي روزناو(18) تتم عليمة الانتشار من خلال أربع طرق متداخلة ومترابطة:
ــ من خلال التفاعل الحواري الثنائي الاتجاه عن طريق تقانة الاتصال.
ــ الاتصال المونولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة.
ــ من خلال المنافسة والمحاكاة.
ــ من خلال تماثل المؤسسات(19).
ولكن روزناو ينسى أو يتناسى الدور الكبير والهام والرئيس للشركات متعددة الجنسية في عملية الحركة والانتقال وبخاصة في مجال البضائع والخدمات ورأس المال والتي تعد من أهم عناصر الانتقالات الكونية.
ثالثاً: الشركات متعددة الجنسية من أقوى قاطرات الرأسمالية باتجاه العولمة
وتعد الشركات متعددة الجنسية من أقوى القاطرات التي تستخدمها الرأسمالية في جر الاقتصاد العالمي باتجاه العولمة للأسباب التالية(20):
1 ـ الانتشار الواسع والسريع للشركات متعددة الجنسية، حيث وصل عددها إلى حوالي 40 ألف شركة يمتد نشاطها في كافة القطاعات ويغطي القارات الخمس. وقد بلغت إيرادات اكبر 500 شركة متعددة الجنسية في عام 1996 نحو 11000 مليار دولار وهذا يشكل 44% من الناتج المحلي العالمي الذي وصل إلى نحو 23000 مليار دولار. (الوطن العربي 576 مليار) وتسيطر الشركات متعددة الجنسية على ثلث الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وثلثي التجارة الدولية في مجال السلع والخدمات.
2 ـ أدى الدور الأساسي الذي لعبته الشركات متعددة الجنسية في تدويل الاستثمار والإنتاج والخدمات والتجارة إلى سيادة أنماط عالمية في الإنتاج ـ من حيث علاقات الإنتاج وشكـــل ملكية وسائل الإنتاج ـ والتسويق والاستهلاك والاستثمار والإعلان والدعاية.
3 ـ يواكب العولمة أحياناً كثيرة تزايد دخول مالكي وسائل الإنتاج وارتفاع قيمة اسهم الشركات متعددة الجنسية وكذلك تزايد عدد المصروفين من الخدمة في هذه الشركات وهذا يؤكد أن لا مكان للمشاعر والمواقف الإنسانية في النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كان هناك خيار بين الإنسانية وحيوية الاقتصاد فليس للرأسمالية سوى الخيار الثاني، الذي أدى إلى فصل 43 مليون عامل من العمل في المؤسسات الأمريكية خلال عشرين عاماً.
وأصبحت الشركات متعددة الجنسية تتحكم بالاقتصاد العالمي، تتحكم بالإنتاج وتبادله وتوزيعه وتسعيره وتيسير الحصول عليه أو منع وصوله،كذلك تتحكم باستقرار مراكز صناعته في هذا المجال الجغرافي أو ذلك، وتتحكم بانتقال رأس المال وبخلق الأزمات أو حلها انها تتحكم بعصب السياسة واعني الاقتصاد.
وتبقى مسألة في منتهى الأهمية، وهي موقف المجتمعات المختلفة من العولمة، هناك معركة كبرى أيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية تدور حول العولمة، هناك اتجاهات رافضة بالكامل، وهي اتجاهات تقف ضد مسار التاريخ، ولن يتاح لها النجاح. وهناك اتجاهات تقبل العولمة من دون تحفظات باعتبارها هي لغة العصر القادم، وهي اتجاهات تتجاهل السلبيات الخطيرة لبعض جوانب العولمة، وهناك اتجاهات نقدية تحاول فهم القوانين الحاكمة للعولمة وتدرك سلفا أن العولمة عملية تاريخية حقاً، ولكن ليس معنى ذلك التسليم بحتمية القيم التي تقوم عليها في الوقت الراهن، والتي تميل في الواقع إلى إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم، وتقديمها في صور جديدة. وهذه الاتجاهات برزت في أوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص. من خلال الموقف الرافض للحزب الاشتراكي الفرنسي، والذي تبلور بـــشكل خاص في تقرير الحزب الصادر في 3 نيسان/أبريل عام 1996 بعنوان: (العولمة وأوروبا وفرنسا) وهو يتضمن أعنف نقد للعولمة الأمريكية، فضلاً عن ذلك، بدأت تتصاعد داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حركات فكرية مضادة للعولمة، لم تقنع بالنقد التفصيلي لكل جوانب العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية ولكنها ـ أبعد من ذلك ـ تحاول أن تقدم البديل، ولعل ابلغ ما يعبر عن هذه الحركات النشطة حالياً الكتاب الذي حرره جيري ماندر وإدوارد سميث عام 1996 وعنوانه: (القضية ضد الاقتصاد الكوني ونحو تحول إلى المحلية) وهو يحتوي على اكثر من أربعين دراسة متعمقة(21).
رابعاً: العولمة الاقتصادية والأقطار الإسلامية
تمثل العولمة التي يشهدها الاقتصاد العالمي تحدياً خارجياً وخطيراً للبلدان الإسلامية واقتصادياتها. بالعالم الإسلامي مراقب ومهدد في نفس الوقت، يعيش مرحلة من التناحر والتآكل والتهميش فاقداً لآية استراتيجية اقتصادية سياسية دينامية للدفاع أو للهجوم. أن عمليات الضغط والإضعاف التي تستهدف وطننا الإسلامي من اجل زعزعة استقراره وتعطيل مؤهلاته حتى لا يبقى أمامه سوى الاندماج السلبي في آليات العولمة وبالصيغة التي يعرفها الأقوياء تحت اسم التدويل الشامل للاقتصاد أو (العولمة الاقتصادية)(22).
ما زال الجدل قائماً بن ثلاثة تيارات فكرية متقابل حول ظاهرة العولمة وأثرها الاقتصادي على بلداننا الإسلامية فيرى التيار الأول أن العولمة أمر طيب ومفيد على وجه العموم. ذلك لأننا سنستفيد من التقدم التكنولوجي المتسارع ومن تكامل الاقتصاد العالمي الذي ربما يقدم فرصة لم يسبق لها مثيل للتخلص من الفقر ومنح ملايين البشر حياة أفضل. بالرغم من أن العولمة ستؤدي حتماً إلى خسارة الأقطار الإسلامية لبعض سادتها في توجيه اقتصادياتها كما تريد. ويدافع عن هذا التيار/ مؤسسات العولمة الثلاث والولايات المتحدة الأمريكية وبعض رجال الأعمال والتكنوقراط.
أما التيار الثاني فهو يرى أن العولمة أمر واقع ونتيجة موضوعية لتطور قوى الإنتاج في الرأسمالية والتقدم العلمي والتقني، وت..... إلى مزيد من التشابك والاندماج بين الاقتصادات المختلفة ألا أن هذه العولمة بأبعادها الحالية تثار حولها ملاحظات وانتقادات جديدة وجدية أهمها أن مكاسبها تطال عدداً قليلاً من الدول عدد سكانها لا تتجاوز 20% من إجمالي سكان العالم. في حين سلبياتها تطال معظم البلدان النامية وتؤدي إلى زيادة مشاكلها الاقتصادية وتعيق عملية التنمية فيها. ويتبنى هذا التيار بعض المفكرين في بلدان العالم الثالث وبعض القوى اليسارية والاشتراكية في الدول الرأسمالية.
التيار الثالث يرى أن العولمة هي أحد شرور النظام الرأسمالي العالمي، لأنها تسعى إلى تعويض اقتصادات الدول الرأسمالية المتقدمة عن انكماش أسواقها الداخلية، وذلك بنقل المزيد من عمليات الإنتاج بكاملها (وبخاصة الصناعات القذرة) من المراكز الرأسمالية الرئيسة إلى البلدان النامية مع الاحتفاظ بقيادة العملية الإنتاجية في العالم، فالرأسمالية عن طريق العولمة تحاول حل مشاكلها الاقتصادية بتصديرها إلى بلدان العالم الثالث. وهذا بدورة يؤدي إلى زياد الأغنياء غنا والفقراء فقرا يتبنى هذا التيار معظم القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية التي تعلم درجة الفقر وسوء التغذية والبطالة والأمراض المنتشرة والتبعية، والنهب المستمر لخيرات بلدان العالم الثالث عن طريق الشركات متعددة الجنسية والتبادل التجاري غير المتكافئ.
1ـ أهداف العولمة الاقتصادية ونتائجها المستقبلية في الأقطار الإسلامية:
في ظل العولمة ظهرت بيئة ضاغطة تتراجع فيها مهمات الدولة في الأقطار الإسلامية لتصبح منحصرة في مجرد التسيير الإداري اليومي لسياسات وبرامج مفروضة من مؤسسات العولمة الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة ومؤسسات مالية دولية أخرى مثل هيئة المعونة الأمريكية وطبقاً لشروط ومتطلبات الشركات متعددة الجنسية حتى تستثمر في الأقطار الإسلامية (وبعبارة أخرى فإن المهمة الملقاة على الدولة في الأقطار الإسلامية وغيرها أضحت مجرد إدارة للازمة أو سياسة إدارة الأزمات. ذلك أن إدارة الأزمة الاقتصادية تشير من وجهة النظر الرأسمالية، إلى أهمية تجنب تصاعد تراكم الفائض الهائل والمتنامي للرأسمال غير المستثمر، أو الذي يمكن استثماره، في عملية توسيع النظام الإنتاجي وهذا يعني أن سياسات تحرير التبادل التجاري والتدفقات العالمية لرأس المال والنسب العالية للفوائد وتنامي الديون الخارجية، ما هي الا أساليب ووسائل ابتكرها النظام الرأسمالي العالمي بهدف الحيلولة دون فشل هذا النظام ولو كان ذلك على حساب البلدان النامية).
ويمكننا تحديد أهم الأهداف والنتائج التي تحصل عليها الأقطار الإسلامية في ظل العولمة وفقاً لما يلي:
1 ـ في ظل تعدد أنماط الإنتاج في كافة الأقطار الإسلامية (نمط الإنتاج الرأسمالي، نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي، نمط الإنتاج غير الرأسمالي) فان العولمة تهدف إلى تصفية أنماط الإنتاج غير الرأسمالية وتصفية شروطها لصالح سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي وحده وشروطه.
2 ـ في ظل التزايد السريع لعدد السكان في الأقطار الإسلامية فيجب أن يظل هذا الحجم الكبير من الكتل البشرية يعمل وينتج ويستهلك في ظل شروط رأسمالية كلاسيكية أو شبه كلاسيكية.
3 ـ تهدف العولمة إلى تحويل كل المنتجين المباشرين في الأقطار الإسلامية إلى العمل المأجور، أي جعل دخولهم تعتمد على السوق فقط مع التراجع السريع للترتيبات الاجتماعية والقانونية والعرفية التي كانت تضمن للفرد حقا في دخل ما بمعزل عن اعتبارات السوق.
4 ـ ستؤدي العولمة حتماً في الأقطار الإسلامية إلى تزايد البطالة بجميع أشكالها وأنواعها لان التحول في شكل ملكية وسائل الإنتاج لصالح الملكية الخاصة سيؤدي إلى أن الطلب على قوة العمل في ظل العولمة ستكون اقل بكثير من عرض قوة العمل.
5 ـ من المتوقع أن تؤدي العولمة إلى تعميق التخلف الاقتصادي في الأقطار الإسلامية فقدان الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني (حيث يصبح ارتباط قطاع الفوسفات في بلد ما بالمركز أقوى بكثير من ارتباطه بقطاع النفط مثل في البلد ذاته، وهو القطاع الذي يرتبط بدوره بالسوق العالمية للنفط بالمراكز اكثر من ارتباطه بقطاع الزراعة المحلي وفي البلد نفسه).
6 ـ سيكون من نتائج العولمة تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة من المركز إلى الأقطار الإسلامية والعالمثالثية وتصدير الصناعات التي تتطلب كثافة عالية في اليد العاملة بدلاً من الكثافة العالمي لرأس المال.
7 ـ سترتفع فاتورة الغذاء المستورد للأقطار الإسلامية، بسبب تحرير التجارة في المواد الغذائية وإلغاء سياسات الدعم للصادرات في دول المركز.
8 ـ سيكون الميل إلى تراجع الصناعات التحويلية في الأقطار الإسلامية بسبب عدم قدرتها على المنافسة، بسبب اعتمادها على السياسات الحمائية لفترة طويلة من الزمن.
9 ـ من المتوقع تراجع أهمية النفط الإسلامي وذلك لان أهمية النفط الإسلامي مرتبطة بمدى حاجة دول المركز الرأسمالي لهذا النفط. وربما يتم اكتشاف بدائل للنفط بسبب التقدم العلمي السريع والهائل.
أدى انتشار نمط الاستهلاك الغربي في الأقطار الإسلامية إلى استنفاذ مواردها المالية وتشويه بنية الطلب في هذه البلدان وبخاصة الطلب الفعال والكبير للشرائح الغنية التي تتميز بشراهتها لاقتناء كل ما هو مستورد وكل ما هو غالي الثمن. فالمظهرية الزائفة والإنفاق التفاخري لدى معظم هذه الفئة الاجتماعية متفشية بين الرجال والنساء سواء بالنسبة لشراء آخر صرعات (موضة) الملابس المصنوعة في الغرب أم اقتناء أحدث موديلات السيارات وأجهزة الاتصال وأجهزة (الكومبيوتر) الحاسوب وأدوات التسلية وتكديس السلع الاستهلاكية الكمالية غالية الثمن في مختلف أركان المنزل. ونجد في بعض الأسر أن كل فرد فيها يمتلك جهاز كمبيوتر أو جهاز تلفزيون في غرفته وأحياناً هاتف وأجهزة تسلية أخرى.
2ـ كيف نواجه العولمة الاقتصادية في الأقطار الإسلامية:
ينظر العالم إلينا اليوم كأمة إسلامية واحدة لها حضارة عريقة ورغبة في بناء مستقبل أجيالها. ولابد من التكتل الاقتصادي الإسلامي لمواجهة التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة بدلا من تكريس السياسات القطرية الضيقة. ولابد من اغتنام الفرصة لوضع أسس التعاون الاقتصادي الإسلامي للدخول في النظام العالمي الجديد (العولمة)، ونحن ندخل الألفية الثالثة للميلاد يمكننا الإشارة إلى عدد من الإجراءات التي بواسطتها يمكن مواجهة العولمة:
ــ دعم الإصلاحات الاقتصادية في الأقطار الإسلامية وتأهيل الاقتصاد الإسلامي للدخول في القرن الحادي والعشرين ضمن التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة.
ــ قيام سوق إسلامي لرأس المال وحركته في إطار الأقطار الإسلامية، وضع إطار قانوني وتشريعات جديدة تتلاءم مع المتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية.
ــ حرية انتقال عناصر الإنتاج والإنتاج وقوة العمل والأشخاص ورأس المال فيما بين الأقطار الإسلامية إضافة إلى حرية التملك والإرث.
ــ توحيد السياسات النقدية والمالية والجمركية والنقل والترانزيت والتجارة الخارجية.
ــ خلق مرصد إسلامي اقتصادي اجتماعي مهمته تقييم واقتراح السياسات الاقتصادية الإسلامية، وتحديد الاختلافات وعوامل تلافيها. وهذا يتطلب خلية استشارية تضم الخبراء الإسلاميين تكلف بالتفكير في السياسات الاقتصادية الإسلامية في ظل المتغيرات الدولية. ويمكن أن يكون للأقطار الإسلامية دور هام في إنجاز مثل هذا الأمر.
ــ لابد من استشراف آفاق المستقبل ووضع تصور مستقبلي لموقع الأقطار الإسلامية في المحيط الإقليمي والدولي وتصور مفهوم محدد للأمن الإسلامي وتوقع مدى إمكانية قيام السوق الإسلامية المشتركة وما يرتبط بها من قضايا الحماية والدعم والمنافسة والحرية الاقتصادية(23).
وضع استراتيجية بناء القدرة التنافسية والتي تعد من أهم عناصر الاستراتيجية العليا للتنمية الشاملة في الأقطار الإسلامية.
ــ الارتقاء بالقدرات البشرية على مستوى الأقطار الإسلامية.
ويمكن أن يكون الدرس الذي تقدمه التجربة الصينية في تعاملها مع العولمة درساً هاماً بالنسبة لجميع الدول النامية والأقطار الإسلامية خاصة. إذ تمكن هذا البلد من إطلاق عملية التنمية بجناحيها الاقتصادي والاجتماعي فنجح، واعتمد على إمكاناته وطاقاته الذاتية بالدرجة الاولى، كما حاول إصلاح بنى اقتصاده الاشتراكي من دون أن يدمرها فأصلح وأراد أن يتعامل مع العولمة بعقل مفتوح ومن موقع قوة الاقتصاد الصيني فأضحت سوقه جاذبة للاستثمارات الخارجية الخاصة والعامة.
إن عالم المستقبل هو عالم التكتلات الاقتصادية، عالم الشركات والاستثمارات الكبرى، عالم التقانة والمعلوماتية، عالم الإدارة القادرة والقرار النافذ. لذلك يتوجب على الأقطار الإسلامية أن تخطو خطوات حاسمة في استمرارية لا رجعة فيها لتحقيق هدف التكامل الاقتصادي الإسلامي والوحدة الاقتصادية الإسلامية التي بدونها لن يستطيع الإسلام بناء اقتصاد إسلامي قادر على البقاء والمنافسة في عالم الاقتصاد المعاصر.
ويعرف الدكتور إسماعيل صبري عبد الله العولمة والتي يفضل أن يستخدم مكانها مصطلح الكوكبة على إنها: (التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية)(1).
ولا أعلم لماذا ابتعد الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عن المفهوم الدقيق للعولمة؟ والذي يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره بعمق لا بل هيمنة النمط الأمريكي سيما وهو يقر بأن الرأسمالية كنمط إنتاج تتغير ملامحها وأساليبها في الاستغلال عبر الزمن، كما أنه يربط بين نشأة العولمة وانتشار الشركات متعددة الجنسية.
يتلازم معنى (العولمة) في مضمار الإنتاج والتبادل: المادي والرمزي مع معنى الانتقال من المجال الوطني، أو القومي، إلى المجال الكوني في جوف مفهوم تعيين مكاني جغرافي (الفضاء العالمي برمته)، غير انه ينطوي على تعيين زماني أيضاً، حقبة ما بعد الدولة القومية، الدولة التي أنجبها العـــصر الحديث إطارا كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وقد يستفاد من ذلك أن المنزع الراهن نحو إنفاذ أحكام العولمة، إذ يضع حداً لتلك الحقبة، يدشن لأخرى قد لا تكون حقائق العصر الحديث ـ السائدة منذ قرابة خمس قرون ـ من مكونات مشهدها، وبالتالي يرسي مداميك ثورة جديدة في التاريخ، ستكون قوتها ـ هذه المرة ـ المجموعة الإنسانية بدل الجماعة الوطنية والقومية(2).
العولمة وفقاً لتحليل البعض فانها تعني: وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج واعادة الإنتاج ذاتها، أي إن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضا، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره، قد تمت. بعبارة أخرى، أن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي ـ إلى هذا الحد أو ذلك ـ إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كليا في مجتمعات المركز ودوله. في الواقع لان عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق بلغت حد الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية كلها ـ باستثناء جيوب هنا وهناك ـ كان لابد لحركية نمط الإنتاج الرأسمالي وديناميكيته من أن تفتح أفقاً جديداً لنفسها وان تتجاوز حدوداً بدت ثابتة سابقاً على طريق نقلة نوعية جديدة بدورها تأخذ الآن الشكل المزدوج لعولمة دائرة الإنتاج ذاتها ونشرها في كل مكان مناسب تقريباً على سطح الكرة الأرضية، من ناحية وإعادة صياغة مجتمعات الأطراف مجدداً، في عمقها الإنتاجي هذه المرة وليس على سطحها التبادلي التجاري الظاهر فقط، من ناحية ثانية، أي إعادة صياغتها وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته.
ويصف الدكتور علي عقلة عرسان نتائج العولمة بأسلوب أدبي حين يقول(3): وهكذا نجد أن العولمة تفسح المجال واسعا أمام أصحاب رؤوس الأموال لجمع المزيد من المال على حساب سياسة قديمة في الاقتصاد كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدي إلى تحقيق ربح بينما اليوم فالاعتماد هو على تشغيل المال فقط دون مغارم من أي نوع للوصول إلى احتكار الربح، إنها مقولة تلخص إلى حد ما بعودة (شايلوك) المرابي اليهودي التاريخي محمّلا على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح لسيطرة القوة المتغطرسة، وعودته المدججة بالعلم والتقانة تقلب القاعدة القديمة القائلة: إن القوي يأكل الضعيف، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول السريع يأكل البطيء وسمك القرش المزود بالطاقة النووية ومعطيات الحواسيب وغزو الفضاء يستطيع أن يبتلع الأسماك الأخرى والصيادين الذين يغامرون إلى أبعد من الشاطئ.
يقضي منطق التطور الرأسمالي بالتوسع المستمر خارج الحدود هكذا بدأ أمره قبل قرون انتقلت الرأسمالية من حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي إلى عالم (ما وراء البحار) في عملية من الزحف الاستعماري واسعة، شملت معظم مناطق جنوب الأرض بحثاً عن المواد الخام واليد العاملة الرخيصة والأسواق وهكذا تجدد قبل قرن حين خرج النظام الرأسمالي العالمي من طور (المزاحمة)أو (المنافسة الحرة) إلى طور الاحتكار الطور الإمبريالي. واليوم،في سياق الثورة التقانية الكبرى، يبلغ التوسع الرأسمالي ذراه، فيطيح بحدود جديدة، الحدود القومية داخل المعسكر الرأسمالي الميتروبولي نفسه. بعد أن أطاح منذ زمن بعيد بحدود المجتمعات التابعة المنتمية إلى منظومة الجنوب. إن هذا النمط الجديد من التوسع،اليوم، هو ما يطلق عليه اسم العولمة، وسمته الأساسية هي توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حداً فيه لكل أنواع السيادة. ولقد بدأت علائم هذا المسار منذ ميلاد ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات، قبل ع.....، لتصل اليوم إلى نظام التجارة الحرة الذي أقر دولياً، بعد مفاوضات (الغات) ووقع التعبير عنه مؤسسيا في منظمة دولية تحمل الاسم ذاته، وفي قوانين وتدابير يلغي مفعولها مفعول القوانين المرعية في الدول الوطنية(4).
لقد أدت الولايات المتحدة دوراً رئيساً في دعمها للرأسمالية وفي ظفر هذه الأخيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ففضلا عن كونها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اكبر سوق واكبر دولة مصدرة في العالم، جعلت الولايات من بناء اقتصاد عالمي رأسمالي حجر أساس في توجهها على الصعيدين السياسي والاقتصادي الدولي ولما كانت اكبر دولة مصدرة فان لها مصلحة إذاً في الإنماء الاقتصادي على الصعيد العالمي لكونه يغذي نموها الاقتصادي. وكي تحافظ على أنظمتها ومؤسساتها الرأسمالية في وجه التهديدات التي تكونها أنظمة اجتماعية اقتصادية أخرى وأهمها الشيوعية السوفيتية أنفقت الكثير على انتشار اقتصاديات رأسمالية في بلدان أخرى وعلى الأخص لدى عدويها السابقين ألمانيا واليابان وفي بلدان أخرى في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرقي آسيا بالإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية والى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا بالإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية والى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا استعملت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لمناطق أخرى في العالم النامي وتعزيزاً للمؤسسات والاقتصادات الرأسمالية حيثما أمكنها ذلك(5).
ثانياً: العوامل التي أدت إلى ظهور العولمة
بعد انهيار الشيوعية وانفجار الاشتراكية من الداخل، وتفكك اليمين التقليدي، خرجت الليبرالية الجديدة باسم العولمة لتغزو كل الدول، وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتطيح بالأنظمة، لتعزيز حرية المبادلات التجارية، مما أدى إلى تباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي... فمن أصل 1500 مليار دولار تدخل العمليات اليومية على الصعيد العالمي هناك 1% فقط يوظف لاكتشاف ثروات جديدة ويُدوّر الباقي في إطار المضاربات(6).
ما هي العوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة العولمة في الوقت الراهن؟ وهل هذا يرجع إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة؟ وهل العولمة تتضمن زيادة التجانس أم تعميق الفوارق والاختلافات؟ وهل الهدف هو توحيد العالم أم النظم المجتمعية عن طريق الحدود المصنوعة؟ وهل العولمة تنطلق من مصادر رئيسية واحدة، أم تنطلق من مصادر متنوعة ومتداخلة؟ وهل تنطلق من عوامل اقتصادية وإبداع تقاني أم من خلال الأزمة الايكولوجية؟ وهل هي عبارة عن اتحاد لكل هذه العوامل أم أنه لا تزال هناك أبعاد أخرى؟ وهل العولمة تتميز بوجود ثقافات عامة أم مجموعة من الثقافات المحلية المتنوعة؟ وهل العولمة غامضة، أم أنها تحول بارز على المدى الطويل بين العام والخاص، وبين المحلي والخارجي، وبين المغلق والمفتوح؟ وهل هي استمرار لنمو الفجوة بين الفقراء والأغنياء على جميع المستويات؟ وهل العولمة تتطلب وجود حكومة عالمية(7)؟ إن جوهر عملية العولمة يتمثل في تسهيل حركة الناس وانتقال المعلومات والسلع والخدمات على النطاق العالمي. وتشمل الحركة والانتقالات التي تنتشر عبر الحدود ست فئات رئيسة وهي: البضائع، الخدمات، الأفراد، رأس المال، الأفكار، والمعلومات والمؤسسات.
ويهدف النظام الرأسمالي الذي يحكمه قانون تعظيم الأرباح الخاصة إلى التوسع وذلك عبر استثمار أرباحه والحصول على قروض من أسواق الرساميل. فإذا لم يتوسع يتعرض للركود والكساد والأزمات الدورية، والأمثلة التاريخية على هذه الأزمات كثيرة ومعروفة. ويؤدي التوسع إلى ظهور المنشآت الاقتصادية الكبرى عبر تركز وتمركز رأس المال(Cool. ومن أهم آليات تحقيق ذلك عمليات الدمج بين المنشآت الكبرى أو استيلاء منشأة كبرى على منشأة أصغر منها عن طريق الشراء أو غير ذلك. كما انه في عملية التوسع تتراكم فوائض مالية لا تجد أحياناً مجالات مربحة في استثمارات حقيقية تؤدي إلى زيادة الإنتاج والتجارة، بل تجد هذه الفوائض مجالاتها المربحة في المضاربة ضمن إطار الدولة الواحدة. كما أن هذه الفوائض تضغط لتأمين حرية انتقالها من دولة إلى أخرى عبر إزالة القيود على حركة الرساميل. ومن الواضح أن أهم سمة للنظام الرأسمالي العالمي الراهن هو ما يسمى بـ(العولمة) المالية(9).
يمثل النظام الاقتصادي المعاصر مرحلة جديدة من مراحل تطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وقد يكون من الممكن تسمية هذه المرحلة بـ(العولمة) كما هي محددة أعلاه، أو اقتصادا دوليا أكثر تكاملاً واندماجاً.
يتسم النظام الاقتصادي العالمي المعاصر بعدد من الخصائص أهمها:
1. انهيار نظام بيريتون وودز.
2. تزايد دور وأهمية الشركات متعددة الجنسية في الاقتصاد العالمي.
3. تزايد دور وأهمية مؤسسات العولمة الثلاث (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة).
4. عولمة النشاط الإنتاجي.
5.عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال.
6. تغيير مراكز القوى الاقتصادية العالمية.
7. تغيير هيكل الاقتصاد العالمي وسياسات التنمية.
8. تراجع أهمية ودور مصادر الطاقة التقليدية والمواد الأولية في السوق العالمية.
يرى الاقتصادي المعروف الدكتور رمزي زكي(10)، إن أهم البصمات بروزاً في الاقتصاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة هو التدويل المطرد الذي اصبح يتسم به الاقتصاد العالمي، ويظهر التدويل في نظرة أولية كبروز متعاظم لدور العلاقات الاقتصادية الدولية. بالمقارنة مع النشاط الاقتصادي على الصعيد المحلي أو الوطني. وهذا واضح من خلال الدور المتعاظم الذي تقوم به وت.....ه الشركات متعددة الجنسية العملاقة التي تمتد نشاطاتها وفروعها إلى مختلف أنحاء العالم، وتسيطر على شطر كبير ومتنام في عمليات إنتاج وتمويل وتوزيع الدخل العالمي مع العلم أن هذا الدور يكون أحيانا غير مباشر وغير ظاهر، فاصبح من الممكن الآن الحديث عن مستوى اقتصادي عالمي متميز بآلياته ومشكلاته وآفاق تطوره على المستويات الوطنية، وتصبح النظرة للعالم باعتباره الوحدة الاقتصادية الأساسية.
والعولمة الاقتصادية أخذت أبعادها في المرحلة الراهنة بانتصار القوى الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وانهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية، فاستعاد النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي هيمنته وانتشاره بدينامية جديدة مؤسسة على اقتصاد السوق والموجة الثالثة (ثورة المعلوماتية) وإدماج القسم الأعظم من الاقتصاديات الوطنية بالسوق الرأسمالية العالمية، بحيث أصبحت هذه الاقتصادات أسيرة لمفاهيم السوق والمنافسة الاحتكارية التي تتحكم فيها القمم الاقتصادية العملاقة، متخطية الحدود والقيود، مستندة إلى قوى السوق وبأشراف مؤسسات العولمة الاقتصادية الثلاث، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمنظمة العالمية للتجارة خليفة (الغات).
وتبدو ملامح العولمة في الاقتصاد من خلال المظاهر التالية:
ــ الاتجاه المتزايد نحو التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية الهائلة.
ــ تنامي دور الشركات متعددة الجنسية (عبر القومية) وتزايد أرباحها واتساع أسواقها وتعاظم نفوذها في التجارة الدولية.
ــ تزايد دور المؤسسات المالية الدولية بشكل مباشر وبخاصة في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلي في الدول النامية (التحول إلى اقتصاد السوق).
ــ تدويل بعض المشكلات الاقتصادية مثل الفقر، التنمية المستدامة، السكان والتنمية، التنمية البشرية، التلوث وحماية البيئة، والتوجه العالمين لتنسيق عمليات معالجة هذه المشكلات والتعاون في حلها.
ــ تعاظم دور الثورة التقنية الثالثة وتأثيرها في الاقتصاد العالمي (التغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج).
ــ بروز ظاهرة القرية العالمية، وتقليص المسافات نتيجة لتطور وسائل النقل والمواصلات وزيادة الاحتكاك بين الشعوب.
ــ تطور وسائل الإعلام وتأثيرها على طبيعة البشر وتطلعاتهم وسلوكهم، واثر ذلك على اختلاط الحضارات والثقافات.
ــ تعاظم دور المعلوماتية، والإدارة، والمراقبة من إدارة نظم المعلومات.
والجدير بالملاحظة أن تجد (العولمة) جوانبها التطبيقية في كافة المجالات باستثناء ما يتعلق بانتقال قوة العمل، ففي الوقت الذي تمارس فيه المراكز الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية التابعة لها مختلف أنواع الضغوط لتأمين حرية انتقال السلع والخدمات والرساميل، فإننا نجدها تضع مختلف القيود والعراقيل لمنع انتقال أو هجرة قوة العمل وبخاصة من الدول النامية إلى الدول المتقدمة. في حين اتصف القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بدرجة أكبر بكثير من حرية الهجرة، فمن المعلوم أن هجرة الأوروبيين إلى الأمريكيتين والى نيوزيلندا واستراليا وجنوب أفريقيا والى الكثير من أقطار العالم الثالث المستعمرة آنذاك مثلت صمام أمان للرأسمالية الأوروبية وساهمت في الحيلولة دون حدوث تغييرات اجتماعية كبيرة فيها بسبب البطالة المتفشية وانتشار الفقر والبؤس في تلك المرحلة(11).
عقب ما سببته الحرب العالمية الثانية من دمار، برز الاقتصاد الأمريكي كقوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي وقد استعلمت الولايات المتحدة موقعها القوي هذا بعد الحرب لخلق حلف دولي سياسي واقتصادي على أساس مساعدة ألمانيا واليابان وفي محاولة لإحداث نمو سريع في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرق آسيا لمواجهة التهديدات السوفيتية والصينية وتحققت منذ الخمسينات مستويات عالية من النمو في تلك المناطق. وقابلتها مستويات عالية أيضاً من النمو في الاتحاد السوفيتي. ومع بداية تراجع الأداء الاقتصادي السوفيتي في أواخر الستينات، أخذ تحد اقتصادي جديد يذر بقرنيه في شرق وجنوب آسيا على شكل سلع تصديرية رخيصة الثمن ورفيعة الجودة أخذت تغرق السوق الأمريكية، وتهدد بخلق عجز جدي في الميزان التجاري. وازدادت مشكلة الولايات المتحدة هذه بسبب ارتفاع أسعار النفط عامي 1973 و 1974 وبالصعوبات التي رافقت التحول من اقتصاد صناعي إلى آخر قائم على الخدمات والتقنية في حقل الإعلام والمعلومات. وقد استطاعت الولايات المتحدة، على الرغم من المشاكل الجدية التي واجهت اقتصادها في السبعينات والثمانينات من أن تتحمل عجزا ضخما في ميزانها التجاري وأجرت إعادة بنيان لاقتصادها، واستعادت في أوائل التسعينات المبادرة في القوة الاقتصادية. وفيما ظلت أوروبا الغربية تقاوم ارتفاع كلفة الانتاج فيها وارتفاع البطالة وعوائق أخرى، وفيما ظلت اليابان تتخبط في ركود اقتصادي منذ العام 1990 نهضت الولايات المتحدة واستعادت تفوق حصتها في الأسواق في صناعتي السيارات والكومبيوتر المهمتين وأعادت تأكيد موقعها على أنها اكبر سوق واكبر دولة مصدرة في العالم ولعل الأهم أنها بانفاقاتها وبتفوقها في الأبحاث في حقل التقنية الرفيعة والتطور وضعت نفسها في موقع جيد يخولها الاستمرار في السيطرة على الأسواق العالمية لبرامج الحاسوب وشبكة الاتصالات العالمية (إنترنت) في مطلع القرن الحادي والعشرين(12).
يقول توم فريدمان الأمريكي(13): نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، العولمة هي الامركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق. إن صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة.
ولكن العولمة بالمفهوم المعاصر (الامركة) ليست مجرد سيطرة وهيمنة والتحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، فهي تمتد لتطال ثقافات الشعوب والهوية القومية الوطنية، وترمي إلى تعميم أنموذج من السلوك وأنماط أو منظومات من القيم وطرائق العيش والتدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة (غربية أمريكية) تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، ولا يخلو ذلك من توجه استعماري جديد يتركز على احتلال العقل والتفكير وجعله يعمل وفق أهداف الغازي ومصالحه. وأكد ذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(14).
وعلينا نحن في أرجاء أخرى من العالم تحديد موقفنا من هذه الهيمنة الأمريكية ومواجهتها وعلينا نحن في الأقطار الإسلامية أن نقرر كيف سنواجه هذا التحدي ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين بأساليب يؤمل أن تكون أكثر نجاحاً من تلك التي واجهنا بها حملة نابليون على مصر في عام 1798، أو تلك التي قابلنا بها انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى(15).
مع ذلك فان موقع الولايات المتحدة القوى في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً لأن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب فمجمل اقتصاد أوروبا الغربية اضخم من الاقتصاد الأمريكي، وكذلك اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بوجه عام. كما أن الاقتصاد الأمريكي ما زال يواجه مشاكل جدية قد تهدد نموه في المستقبل ومن هذه المشاكل العجز في الميزان التجاري، وعلى الأخص مع شرق آسيا البالغ قرابة 160 مليار دولار في السنة وديون دولية متراكمة تربو على الألف مليار دولار وكانت الولايات المتحدة قد اعتمدت التسامح تجاه العجز التجاري على انه جزء من استراتيجيتها الرامية إلى تقوية حلفائها الرأسماليين عقب الحرب العالمية الثانية ولكن حجم العجز وثباته ابقيا الضغط على الدولار الأمريكي وبقي الخطر ينطوي على التسبب في انخفاض مفرط في قيمة الدولار لقد استطاع الدولار الحفاظ على مركز قوي نظرا إلى ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي والى غياب عملة بديلة قادرة على الاستمرار ولان اقتصاديات شرق آسيا يهمها بقاء الدولار قويا لتنشيط صادراتها الا أن استمرار العجز مشفوعا بنمو الاقتصاد الصيني نموا سريعاً علماً بان الصين تصدر سلعا كثيرة إلى الولايات المتحدة. لقد أدى العجز في الميزان التجاري إلى توسع الاستثمارات الأجنبية وخصوصاً اليابانية منها في الولايات المتحدة وكذلك إلى شراء قطاعات كبيرة من الاقتصاد الأمريكي ومنها العقارات والمؤسسات الصناعية والخدماتية كما أن الدين الخارجي البالغ ألف مليار دولار والمتوجب في أكثره لليابان يفرض نزفا مستمرا على الميزانية العامة ويحول دون توظيف موارد مهمة في الاقتصاد وفي الأنشطة الإنتاجية ولئن كان بالإمكان تحمل هذا الدين نظرا إلى الناتج القومي الأمريكي الذي يربو على السبعة آلاف مليون دولار فان هذا الدين يبقي معيقا للنمو السريع(16).
إن للعولمة أهدافا أبعد من الربح وأبعد من التجارة الحرة والحدود المفتوحة والأسواق الحرة، إن الخطر يكمن في ما يسمى بثقافة العولمة أكثر. تروج العولمة لأربع ثورات أساسية من المتوقع أن يكون لها تأثير كبير في حياة الناس جميعا وسط تحديات هائلة. وهذه الثورات هي(17):
1ـ الثورة الديمقراطية.
2ـ الثورة التكنولوجية الثالثة ـ أو ما بعد الثالثة.
3ـ ثورة التكتلات الاقتصادية وبخاصة العملاقة.
4ـ ثورة اقتصاد السوق وحرية التبادل التجاري، بعد قيام المنظمة العالمية للتجارة لتحل محل اتفاقيات الغات.
وفي إطار هذه الثورات وما ينتج عنها من آثار يتم بناء النظام العالمي (العولمة)، ويعتمد فيه الاقتصاد على استثمار الوقت بأقل تكلفة وعن طريق استخدام المعرفة الجديدة وتحويلها إلى سلع أو خدمات جديدة أو التحسين السريع والمستمر في المنتجات وطرق التصنيع والدخول بها إلى الأسواق بطريقة فعالة. ولم تعد التنمية الاقتصادية تعني التغيير من وضع سيئ إلى وضع أفضل بل المهم هو الوقت الذي يستغرقه هذا التغيير.
كيف تحدث العولمة؟ وبأي طريق أو من خلال أي قنوات تتم حركة وانتقال البضائع والخدمات والأفراد ورأس المال والأفكار والمعلومات والرموز والاتجاهات وأشكال السلوك عبر الحدود؟ وما هو دور الشركات متعددة الجنسية في ذلك؟
في رأي روزناو(18) تتم عليمة الانتشار من خلال أربع طرق متداخلة ومترابطة:
ــ من خلال التفاعل الحواري الثنائي الاتجاه عن طريق تقانة الاتصال.
ــ الاتصال المونولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة.
ــ من خلال المنافسة والمحاكاة.
ــ من خلال تماثل المؤسسات(19).
ولكن روزناو ينسى أو يتناسى الدور الكبير والهام والرئيس للشركات متعددة الجنسية في عملية الحركة والانتقال وبخاصة في مجال البضائع والخدمات ورأس المال والتي تعد من أهم عناصر الانتقالات الكونية.
ثالثاً: الشركات متعددة الجنسية من أقوى قاطرات الرأسمالية باتجاه العولمة
وتعد الشركات متعددة الجنسية من أقوى القاطرات التي تستخدمها الرأسمالية في جر الاقتصاد العالمي باتجاه العولمة للأسباب التالية(20):
1 ـ الانتشار الواسع والسريع للشركات متعددة الجنسية، حيث وصل عددها إلى حوالي 40 ألف شركة يمتد نشاطها في كافة القطاعات ويغطي القارات الخمس. وقد بلغت إيرادات اكبر 500 شركة متعددة الجنسية في عام 1996 نحو 11000 مليار دولار وهذا يشكل 44% من الناتج المحلي العالمي الذي وصل إلى نحو 23000 مليار دولار. (الوطن العربي 576 مليار) وتسيطر الشركات متعددة الجنسية على ثلث الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وثلثي التجارة الدولية في مجال السلع والخدمات.
2 ـ أدى الدور الأساسي الذي لعبته الشركات متعددة الجنسية في تدويل الاستثمار والإنتاج والخدمات والتجارة إلى سيادة أنماط عالمية في الإنتاج ـ من حيث علاقات الإنتاج وشكـــل ملكية وسائل الإنتاج ـ والتسويق والاستهلاك والاستثمار والإعلان والدعاية.
3 ـ يواكب العولمة أحياناً كثيرة تزايد دخول مالكي وسائل الإنتاج وارتفاع قيمة اسهم الشركات متعددة الجنسية وكذلك تزايد عدد المصروفين من الخدمة في هذه الشركات وهذا يؤكد أن لا مكان للمشاعر والمواقف الإنسانية في النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كان هناك خيار بين الإنسانية وحيوية الاقتصاد فليس للرأسمالية سوى الخيار الثاني، الذي أدى إلى فصل 43 مليون عامل من العمل في المؤسسات الأمريكية خلال عشرين عاماً.
وأصبحت الشركات متعددة الجنسية تتحكم بالاقتصاد العالمي، تتحكم بالإنتاج وتبادله وتوزيعه وتسعيره وتيسير الحصول عليه أو منع وصوله،كذلك تتحكم باستقرار مراكز صناعته في هذا المجال الجغرافي أو ذلك، وتتحكم بانتقال رأس المال وبخلق الأزمات أو حلها انها تتحكم بعصب السياسة واعني الاقتصاد.
وتبقى مسألة في منتهى الأهمية، وهي موقف المجتمعات المختلفة من العولمة، هناك معركة كبرى أيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية تدور حول العولمة، هناك اتجاهات رافضة بالكامل، وهي اتجاهات تقف ضد مسار التاريخ، ولن يتاح لها النجاح. وهناك اتجاهات تقبل العولمة من دون تحفظات باعتبارها هي لغة العصر القادم، وهي اتجاهات تتجاهل السلبيات الخطيرة لبعض جوانب العولمة، وهناك اتجاهات نقدية تحاول فهم القوانين الحاكمة للعولمة وتدرك سلفا أن العولمة عملية تاريخية حقاً، ولكن ليس معنى ذلك التسليم بحتمية القيم التي تقوم عليها في الوقت الراهن، والتي تميل في الواقع إلى إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم، وتقديمها في صور جديدة. وهذه الاتجاهات برزت في أوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص. من خلال الموقف الرافض للحزب الاشتراكي الفرنسي، والذي تبلور بـــشكل خاص في تقرير الحزب الصادر في 3 نيسان/أبريل عام 1996 بعنوان: (العولمة وأوروبا وفرنسا) وهو يتضمن أعنف نقد للعولمة الأمريكية، فضلاً عن ذلك، بدأت تتصاعد داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حركات فكرية مضادة للعولمة، لم تقنع بالنقد التفصيلي لكل جوانب العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية ولكنها ـ أبعد من ذلك ـ تحاول أن تقدم البديل، ولعل ابلغ ما يعبر عن هذه الحركات النشطة حالياً الكتاب الذي حرره جيري ماندر وإدوارد سميث عام 1996 وعنوانه: (القضية ضد الاقتصاد الكوني ونحو تحول إلى المحلية) وهو يحتوي على اكثر من أربعين دراسة متعمقة(21).
رابعاً: العولمة الاقتصادية والأقطار الإسلامية
تمثل العولمة التي يشهدها الاقتصاد العالمي تحدياً خارجياً وخطيراً للبلدان الإسلامية واقتصادياتها. بالعالم الإسلامي مراقب ومهدد في نفس الوقت، يعيش مرحلة من التناحر والتآكل والتهميش فاقداً لآية استراتيجية اقتصادية سياسية دينامية للدفاع أو للهجوم. أن عمليات الضغط والإضعاف التي تستهدف وطننا الإسلامي من اجل زعزعة استقراره وتعطيل مؤهلاته حتى لا يبقى أمامه سوى الاندماج السلبي في آليات العولمة وبالصيغة التي يعرفها الأقوياء تحت اسم التدويل الشامل للاقتصاد أو (العولمة الاقتصادية)(22).
ما زال الجدل قائماً بن ثلاثة تيارات فكرية متقابل حول ظاهرة العولمة وأثرها الاقتصادي على بلداننا الإسلامية فيرى التيار الأول أن العولمة أمر طيب ومفيد على وجه العموم. ذلك لأننا سنستفيد من التقدم التكنولوجي المتسارع ومن تكامل الاقتصاد العالمي الذي ربما يقدم فرصة لم يسبق لها مثيل للتخلص من الفقر ومنح ملايين البشر حياة أفضل. بالرغم من أن العولمة ستؤدي حتماً إلى خسارة الأقطار الإسلامية لبعض سادتها في توجيه اقتصادياتها كما تريد. ويدافع عن هذا التيار/ مؤسسات العولمة الثلاث والولايات المتحدة الأمريكية وبعض رجال الأعمال والتكنوقراط.
أما التيار الثاني فهو يرى أن العولمة أمر واقع ونتيجة موضوعية لتطور قوى الإنتاج في الرأسمالية والتقدم العلمي والتقني، وت..... إلى مزيد من التشابك والاندماج بين الاقتصادات المختلفة ألا أن هذه العولمة بأبعادها الحالية تثار حولها ملاحظات وانتقادات جديدة وجدية أهمها أن مكاسبها تطال عدداً قليلاً من الدول عدد سكانها لا تتجاوز 20% من إجمالي سكان العالم. في حين سلبياتها تطال معظم البلدان النامية وتؤدي إلى زيادة مشاكلها الاقتصادية وتعيق عملية التنمية فيها. ويتبنى هذا التيار بعض المفكرين في بلدان العالم الثالث وبعض القوى اليسارية والاشتراكية في الدول الرأسمالية.
التيار الثالث يرى أن العولمة هي أحد شرور النظام الرأسمالي العالمي، لأنها تسعى إلى تعويض اقتصادات الدول الرأسمالية المتقدمة عن انكماش أسواقها الداخلية، وذلك بنقل المزيد من عمليات الإنتاج بكاملها (وبخاصة الصناعات القذرة) من المراكز الرأسمالية الرئيسة إلى البلدان النامية مع الاحتفاظ بقيادة العملية الإنتاجية في العالم، فالرأسمالية عن طريق العولمة تحاول حل مشاكلها الاقتصادية بتصديرها إلى بلدان العالم الثالث. وهذا بدورة يؤدي إلى زياد الأغنياء غنا والفقراء فقرا يتبنى هذا التيار معظم القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية التي تعلم درجة الفقر وسوء التغذية والبطالة والأمراض المنتشرة والتبعية، والنهب المستمر لخيرات بلدان العالم الثالث عن طريق الشركات متعددة الجنسية والتبادل التجاري غير المتكافئ.
1ـ أهداف العولمة الاقتصادية ونتائجها المستقبلية في الأقطار الإسلامية:
في ظل العولمة ظهرت بيئة ضاغطة تتراجع فيها مهمات الدولة في الأقطار الإسلامية لتصبح منحصرة في مجرد التسيير الإداري اليومي لسياسات وبرامج مفروضة من مؤسسات العولمة الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة ومؤسسات مالية دولية أخرى مثل هيئة المعونة الأمريكية وطبقاً لشروط ومتطلبات الشركات متعددة الجنسية حتى تستثمر في الأقطار الإسلامية (وبعبارة أخرى فإن المهمة الملقاة على الدولة في الأقطار الإسلامية وغيرها أضحت مجرد إدارة للازمة أو سياسة إدارة الأزمات. ذلك أن إدارة الأزمة الاقتصادية تشير من وجهة النظر الرأسمالية، إلى أهمية تجنب تصاعد تراكم الفائض الهائل والمتنامي للرأسمال غير المستثمر، أو الذي يمكن استثماره، في عملية توسيع النظام الإنتاجي وهذا يعني أن سياسات تحرير التبادل التجاري والتدفقات العالمية لرأس المال والنسب العالية للفوائد وتنامي الديون الخارجية، ما هي الا أساليب ووسائل ابتكرها النظام الرأسمالي العالمي بهدف الحيلولة دون فشل هذا النظام ولو كان ذلك على حساب البلدان النامية).
ويمكننا تحديد أهم الأهداف والنتائج التي تحصل عليها الأقطار الإسلامية في ظل العولمة وفقاً لما يلي:
1 ـ في ظل تعدد أنماط الإنتاج في كافة الأقطار الإسلامية (نمط الإنتاج الرأسمالي، نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي، نمط الإنتاج غير الرأسمالي) فان العولمة تهدف إلى تصفية أنماط الإنتاج غير الرأسمالية وتصفية شروطها لصالح سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي وحده وشروطه.
2 ـ في ظل التزايد السريع لعدد السكان في الأقطار الإسلامية فيجب أن يظل هذا الحجم الكبير من الكتل البشرية يعمل وينتج ويستهلك في ظل شروط رأسمالية كلاسيكية أو شبه كلاسيكية.
3 ـ تهدف العولمة إلى تحويل كل المنتجين المباشرين في الأقطار الإسلامية إلى العمل المأجور، أي جعل دخولهم تعتمد على السوق فقط مع التراجع السريع للترتيبات الاجتماعية والقانونية والعرفية التي كانت تضمن للفرد حقا في دخل ما بمعزل عن اعتبارات السوق.
4 ـ ستؤدي العولمة حتماً في الأقطار الإسلامية إلى تزايد البطالة بجميع أشكالها وأنواعها لان التحول في شكل ملكية وسائل الإنتاج لصالح الملكية الخاصة سيؤدي إلى أن الطلب على قوة العمل في ظل العولمة ستكون اقل بكثير من عرض قوة العمل.
5 ـ من المتوقع أن تؤدي العولمة إلى تعميق التخلف الاقتصادي في الأقطار الإسلامية فقدان الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني (حيث يصبح ارتباط قطاع الفوسفات في بلد ما بالمركز أقوى بكثير من ارتباطه بقطاع النفط مثل في البلد ذاته، وهو القطاع الذي يرتبط بدوره بالسوق العالمية للنفط بالمراكز اكثر من ارتباطه بقطاع الزراعة المحلي وفي البلد نفسه).
6 ـ سيكون من نتائج العولمة تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة من المركز إلى الأقطار الإسلامية والعالمثالثية وتصدير الصناعات التي تتطلب كثافة عالية في اليد العاملة بدلاً من الكثافة العالمي لرأس المال.
7 ـ سترتفع فاتورة الغذاء المستورد للأقطار الإسلامية، بسبب تحرير التجارة في المواد الغذائية وإلغاء سياسات الدعم للصادرات في دول المركز.
8 ـ سيكون الميل إلى تراجع الصناعات التحويلية في الأقطار الإسلامية بسبب عدم قدرتها على المنافسة، بسبب اعتمادها على السياسات الحمائية لفترة طويلة من الزمن.
9 ـ من المتوقع تراجع أهمية النفط الإسلامي وذلك لان أهمية النفط الإسلامي مرتبطة بمدى حاجة دول المركز الرأسمالي لهذا النفط. وربما يتم اكتشاف بدائل للنفط بسبب التقدم العلمي السريع والهائل.
أدى انتشار نمط الاستهلاك الغربي في الأقطار الإسلامية إلى استنفاذ مواردها المالية وتشويه بنية الطلب في هذه البلدان وبخاصة الطلب الفعال والكبير للشرائح الغنية التي تتميز بشراهتها لاقتناء كل ما هو مستورد وكل ما هو غالي الثمن. فالمظهرية الزائفة والإنفاق التفاخري لدى معظم هذه الفئة الاجتماعية متفشية بين الرجال والنساء سواء بالنسبة لشراء آخر صرعات (موضة) الملابس المصنوعة في الغرب أم اقتناء أحدث موديلات السيارات وأجهزة الاتصال وأجهزة (الكومبيوتر) الحاسوب وأدوات التسلية وتكديس السلع الاستهلاكية الكمالية غالية الثمن في مختلف أركان المنزل. ونجد في بعض الأسر أن كل فرد فيها يمتلك جهاز كمبيوتر أو جهاز تلفزيون في غرفته وأحياناً هاتف وأجهزة تسلية أخرى.
2ـ كيف نواجه العولمة الاقتصادية في الأقطار الإسلامية:
ينظر العالم إلينا اليوم كأمة إسلامية واحدة لها حضارة عريقة ورغبة في بناء مستقبل أجيالها. ولابد من التكتل الاقتصادي الإسلامي لمواجهة التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة بدلا من تكريس السياسات القطرية الضيقة. ولابد من اغتنام الفرصة لوضع أسس التعاون الاقتصادي الإسلامي للدخول في النظام العالمي الجديد (العولمة)، ونحن ندخل الألفية الثالثة للميلاد يمكننا الإشارة إلى عدد من الإجراءات التي بواسطتها يمكن مواجهة العولمة:
ــ دعم الإصلاحات الاقتصادية في الأقطار الإسلامية وتأهيل الاقتصاد الإسلامي للدخول في القرن الحادي والعشرين ضمن التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة.
ــ قيام سوق إسلامي لرأس المال وحركته في إطار الأقطار الإسلامية، وضع إطار قانوني وتشريعات جديدة تتلاءم مع المتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية.
ــ حرية انتقال عناصر الإنتاج والإنتاج وقوة العمل والأشخاص ورأس المال فيما بين الأقطار الإسلامية إضافة إلى حرية التملك والإرث.
ــ توحيد السياسات النقدية والمالية والجمركية والنقل والترانزيت والتجارة الخارجية.
ــ خلق مرصد إسلامي اقتصادي اجتماعي مهمته تقييم واقتراح السياسات الاقتصادية الإسلامية، وتحديد الاختلافات وعوامل تلافيها. وهذا يتطلب خلية استشارية تضم الخبراء الإسلاميين تكلف بالتفكير في السياسات الاقتصادية الإسلامية في ظل المتغيرات الدولية. ويمكن أن يكون للأقطار الإسلامية دور هام في إنجاز مثل هذا الأمر.
ــ لابد من استشراف آفاق المستقبل ووضع تصور مستقبلي لموقع الأقطار الإسلامية في المحيط الإقليمي والدولي وتصور مفهوم محدد للأمن الإسلامي وتوقع مدى إمكانية قيام السوق الإسلامية المشتركة وما يرتبط بها من قضايا الحماية والدعم والمنافسة والحرية الاقتصادية(23).
وضع استراتيجية بناء القدرة التنافسية والتي تعد من أهم عناصر الاستراتيجية العليا للتنمية الشاملة في الأقطار الإسلامية.
ــ الارتقاء بالقدرات البشرية على مستوى الأقطار الإسلامية.
ويمكن أن يكون الدرس الذي تقدمه التجربة الصينية في تعاملها مع العولمة درساً هاماً بالنسبة لجميع الدول النامية والأقطار الإسلامية خاصة. إذ تمكن هذا البلد من إطلاق عملية التنمية بجناحيها الاقتصادي والاجتماعي فنجح، واعتمد على إمكاناته وطاقاته الذاتية بالدرجة الاولى، كما حاول إصلاح بنى اقتصاده الاشتراكي من دون أن يدمرها فأصلح وأراد أن يتعامل مع العولمة بعقل مفتوح ومن موقع قوة الاقتصاد الصيني فأضحت سوقه جاذبة للاستثمارات الخارجية الخاصة والعامة.
إن عالم المستقبل هو عالم التكتلات الاقتصادية، عالم الشركات والاستثمارات الكبرى، عالم التقانة والمعلوماتية، عالم الإدارة القادرة والقرار النافذ. لذلك يتوجب على الأقطار الإسلامية أن تخطو خطوات حاسمة في استمرارية لا رجعة فيها لتحقيق هدف التكامل الاقتصادي الإسلامي والوحدة الاقتصادية الإسلامية التي بدونها لن يستطيع الإسلام بناء اقتصاد إسلامي قادر على البقاء والمنافسة في عالم الاقتصاد المعاصر.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى