- achwak
- الجنس :
عدد المساهمات : 4671 نقاط التميز : 11991 تاريخ التسجيل : 24/03/2011 العمر : 47
عدد الحركى غداة استقلال الجزائر تجاوز مليون خائن...
الإثنين 16 ديسمبر - 12:52
ما كان متواترا لدينا أن عدد "الحركى" في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّا أظن أن الرقم أكبر بكثير، شخصيا أعرف في إحدى مناطق الولاية الرابعة أن هناك 1500 حركي يتوزعون على 3 عروش فقط.
وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و"البيّاعين" وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.
قضية "الحركى" في الجزائر إبّان فترة الاحتلال الفرنسي، واحدة من القضايا الساخنة التي ما تزال تصنع الجدل التاريخي والسياسي والإعلامي بين ضفتي المتوسط، وبعد نصف قرن من الاستقلال الوطني تبقى راسخة في الذاكرة الشعبية والجماعية، وتحتل مكانتها وسط المهتمين بالعلاقات الثنائية بين البلدين، تتضارب الأرقام والروايات، لتحتجب الحقيقة فوق طاولة اللعب بأوراق الماضي، ولا يبدو أن هذه الصفحة ستُطوى قريبًا، لأن فرنسا تسعى إلى هيكلة وتوريث "الفكر الحرْكي" لدى الأجيال الناشئة فوق أراضيها .
في السلسلة التالية تفتح "الشروق" دفاتر الملف الشائك، لتستنطق الحقيقة من أفواه صنّاعها وشهودها العدول، وإليكم نص الحوار الكامل بهذا الخصوص مع الرائد سي لخضر بورقعة .
نريد أن نعرف في البداية الأسباب التي دفعت بقطاع واسع من الجزائريين (الحركى) إلى أن يضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار ضد ثورة شعبهم، هل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية حينها يمكن أن تفسِّر لوحدها تلك الخيانة، أم أن هناك دوافع أخرى سياسية وأيدولوجية؟
أولا أوضح أن ثمة فرقاً في الاصطلاح التاريخي بين لفظين يُستعملان عادة للتعبير عن هذه القضية، وهما الحركى أو (الڤومية)، والبيّوعين أي (المخبرين)، فالشريحة الأولى تعني المسلحين الذين رافقوا قوات الاستعمار، وهي محلّ حوارنا الآن، أما الفئة الثانية فكانت تتكفل بمتابعة ومراقبة نشاطات المجاهدين والسياسيين، ثم تتولى التبليغ عنهم ورفع التقارير إلى الأجهزة الفرنسية.
ثانيا، أودّ أن نعرج سريعا على نشأة جهاز "الحركى" أصلا، كيف ظهرت هذه الشريحة بين الجزائريين، لقد كانت لفرنسا منهجيتها المتكاملة في التعامل مع الثورة، ولهذا بادرت منذ البداية إلى تأسيس قوى "الحركى"، والفكرة جاءت من خلال استقصاء فرنسا لأخبار المجاهدين، حيث كانت تنزل إلى القرى والمداشر وتسأل عمن تسميهم "الفلاڤة"، فيجيبها عملاؤها عن تحركات الثوار، وكيف يجندون ويأخذون المال والمؤونة من السكان بالقوة، وفق رواية المُخبرين، هذا الأمر جعل فرنسا تصنّف المواطنين إلى موالين ومعادين للثورة، فاقترحت على المتعاطفين معها والخائفين من بطشها أن تضع السلاح في متناولهم للدفاع عن أنفسهم ضد "الفلاڤة"، قبل أن يتحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى مجندين عسكريين في صفوف القوات الفرنسية ضد شعبهم، وهذه الخطة سمحت لفرنسا من جهة أخرى باكتشاف الفئات الموالية للثورة وهي التي رفضت أن تتسلح في وجه المجاهدين، ولكن تشكلت شريحة معتبرة بين الفريقين (الموالين والمعادين)، وهي التي تبدي تعاملا ظاهرا مع الاستعمار بفعل الضغوط الممارسة ضدها، بينما هي غير مقتنعة بذلك، وهؤلاء لم يكونوا في الحقيقة "حركى" ولا مُخبرين خالصين، لكن الظروف كانت أقوى منهم.
أما عن الأسباب فلا شك أن كلّ الدوافع التي تفضلت بها في سؤالك واردة لكن تبقى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية هي الأساس، لأن الشعب كان يعيش الفقر المدقع والاحتياج والخوف والجهل والبطش العسكري، في نفس الوقت، كانت هناك قطاعاتٌ عريضة غير مؤمنة بإمكانية نجاح الثورة، وبالتالي يرفضون الرهان على الفشل، وثمة جناح ثالث موالي قلبا وقالبا للاستعمار، أي مقتنعين عقديا وايديولوجيا بفرنسا وهم الأقلية.
كيف كان الجزائريون يتعايشون مع هؤلاء "الحركى" وهم يعيشون بين ظهرانيهم في القرى والمداشر والمدن، ويعرفهم العام والخاص؟
بكل تأكيد كان هؤلاء منبوذين من طرف عموم الشعب، وأفعالهم مستنكرة، لهذا وجدنا منهم من يتحلى بشيء من الحياء، فيغادر محلّ إقامته إلى منطقة أخرى حتى يتخفى ولا يُكتشف أمره، في حين فضّل "حركى" آخرون المكوث في قراهم ومداشرهم بهدف توفير الحماية لعائلاتهم والحفاظ على امتيازاتهم الخاصة مع الاستعمار، لكن لا تنسى أن الشعب الجزائري كان يعاني الأمرّين خلال الثورة، وكان الضغط النفسي والأمني شديدا جدا على السكان، ما دفع ببعضهم إلى تقبّل هؤلاء الخونة، بل كانوا يطلبون منهم قضاء حاجاتهم الشخصية والعائلية.
أنت كنت من رجال الميدان في الثورة، وتعرف عن قرب دور هؤلاء "الحركى" في دعم وإسناد الجيش الفرنسي، هل ترى أن تأثيرهم الفعلي قدّم "خدمة إستراتيجية" للاستعمار، وبالتالي قد أخّر حتى إنجاز الاستقلال؟
طبعا، فرنسا استفادت كثيراً من خدمات هؤلاء "الحركى" على المستويين العسكري والدِّعائي بصفة أكبر، فقد شكَّل الاستعمار من خلالهم حاجزا تجاه الثورة، وظفته الدعاية الفرنسية للتأثير في الرأي العام وتحطيم معنويات الشعب، عبر إبراز صورة وموقع "الحركى" إلى جانبها ضد مشروع التحرير، إلى درجة من التغليط والإشاعات يظهر معها أن نصف الشعب على الأقل كان رافضا لاحتضان الثورة المسلحة.
أما على الصعيد العملياتي، فقد كان للحركات المصاليّة المناوئة تأثيرٌ هائل على مسار الثورة، فقد انبثقت من رحم الوطنيين المصاليين 5 حركات مضادة للثورة، وتركزت في منطقة الوسط، وهي جماعة: كوبيس، الشريفي، السعيدي، بلونيس، ومصمودي، وقد استمرت تحركاتها السلبية إلى غاية وقف إطلاق النار، باستثناء حركتي بلونيس وكوبيس اللتين أجهضتا بعد تصفية زعيميهما.
وهذه الفصائل المناوئة من المصاليين هي التي كان لها تأثير سلبي في عمل الثورة، عشرات الآلاف من المجندين المهيكلين في صفوف الجيش الفرنسي من "الحركى"، وتسببت تلك الحركات في تأخير الاستقلال 3 سنوات على أقل تقدير، لأن فرنسا سعت من خلالها إلى إيجاد "تيار ثالث"، مستغلة في ذلك الجذور الوطنية لأفرادها، في إرباك المواطنين وهزّ قناعاتهم الثورية، بخلاف "الحركى" الذين كانت خيانتهم مكشوفة لا غبار عليها لدى السكان.
لقد كان من الممكن أن تحسم الثورة مشروع التحرير بعد 3 سنوات من انطلاقها، لكن تأثير هؤلاء المصاليين أوصل الثورة إلى المرحلة الثالثة التي تزامنت مع عودة دوغول إلى السلطة في فرنسا عام 1958، وقد كانت تلك الفترة (58-62) الأشد فتكا وقساوة، وعرفت سقوط 80_ من شهداء حرب التحرير.
ما دمت قد تحدثت عن المراحل، هل يمكن أن ترسم لنا "منحنى بيانيّا" عن تصاعد وتراجع "الحركى" مع سنوات الثورة؟
فيالق "الحركى" رافقت الثورة منذ البداية، لكنها عرفت ذروتها مع مجيئ ديغول في 13/05/1958، حيث رمى هذا الأخير بكل ثقله التاريخي والعسكري والسياسي لإجهاض الثورة، فعمد إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من "الحركى" في صفوف الجيش الفرنسي، وخطط بكل السّبل لخلق غطاء سياسي ومعنوي لإضفاء صبغة شرعية تعمي على علاقة هؤلاء بالاستعمار، من خلال ربطهم بالحركات المناوئة مثلاً، بدل أن يتجندوا مباشرة مع جيش الاستعمار، لكن الثورة كانت لها بالمرصاد، وركزت على وأد تلك الحركات المضادة لسحب البساط من تحت أرجل دوغول وأذنابه الخونة.
حتى مع نهاية الخمسينات حيث تقوّى عود الثورة وأصبح لها حكومة مؤقتة وحضور أممي، لم تتراجع وتيرة "الحركى".. لماذا؟
هذه المرحلة مثلما أكدت لك سابقا كانت الأعنف والأقسى على حياة الجزائريين عموما وعلى مسار الثورة خصوصا، فقد تجسدت خلالها سياسة ما يعرف بـ"الأراضي المحرَّمة" التي يُمنع فيها التواجد مطلقا، في المقابل، لم تكن الثورة في الداخل تملك وسائل إعلام للتبليغ والتواصل مع السكان، حتى أننا للوهلة الأولى، لم نصدِّق نحن القيادات الميدانية إعلان بن يوسف بن خدة عن وقف إطلاق النار في 19 مارس 62، وبالتالي الجزائريون في عمومهم لم يكونوا مواكبين للتطورات العسكرية للثورة، بل كان مفعول الإرهاب النفسي والاجتماعي والأمني شديدا على معنوياتهم، ومن ثمة بقي منحنى "الحركى" مرتفعا تقريبا حتى أواخر الثورة، مع أن البعض استيقظ ضميره وصحا من غفوته ليلتحق بصفوف الثورة إلى جانب شعبه وينال شرف المشاركة في حرب التحرير وإن متأخرا.
لو نتحدث بلغة الأرقام، وقد نظمت الثورة بشكل دقيق مع مطلع الستينات وحتى قبلها، هل كان لدى قيادات جيش وجبهة التحرير الوطني إحصاءات مضبوطة أو تقديرية، حول عدد "الحركى" غداة الاستقلال، لأن المتداول منها متضارب وفي عمومه فرنسيّ المصدر؟
بصراحة لم تكن هناك تقديراتٌ دقيقة لأن الملف كما أسلفت لك كان يُعالج بشكل محلّي، فقط ما كان متواترا لدينا أنهم في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّا أظن أن الرقم أكبر بكثير، شخصيا أعرف في إحدى مناطق الولاية الرابعة أن هناك 1500 حركي يتوزعون على 3 عروش فقط. وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و"البيّاعين" وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.
وفي ذات السياق، أريد أن أصحح مغالطات يروّجها البعض حول تمركز "الحركى" في مناطق وولايات بعينها، حتى أن مجاهدين كباراً ما فتئوا يرددون أن مناطقهم لم يوجد بها "حركى"، أقول إنّ مثل تلك الإشاعات والدعايات غير موضوعية وتنبع من حسابات تاريخية وعصبية مقيتة، والحقيقة أن كل المناطق حيثما وجدت فرنسا، كان هناك "حركى" وعملاء، لأن الظروف والضغوط والواقع نفسه، والإنسان هو الانسان.
على حد ذكرك لتراجع بعض "الحركى" عن موقفهم وانضمامهم إلى جيش التحرير الوطني، نودّ أن نعرف سياسة ومنهجية الثورة في التعاطي معهم؟
في الحقيقة لم تكن هناك سياسة موحدة أو منهجية مشتركة في التعامل مع "الحركى"، بل خضعت القضية للاجتهاد المحلي بحسب ظروف وخصوصيات كل ناحية، بل داخل كل ولاية كانت هناك توجهات مختلفة في معالجة حالات "الحركى"، لأن النظام الثوري بشكل عام لم يكن يخضع للقرار المركزي، بل منح لكل قائد حقّ استعمال سلطاته في نطاق الحيز الجغرافي، فالبعض لجأ إلى تصفيتهم ومطاردتهم بالقوة، في حين غضّ البعض الآخر الطرف عنهم وتفادى أسلوب المواجهة معهم، من باب العمل بأخفّ الضررين، حتى لا يسقط ضحايا أبرياء، أو نتسبب في تضييق الخناق أكثر على الثورة، وبالتالي كان التساهل معهم شفقة على الثورة بالأساس. في مقابل ذلك، وقعت بعض الهفوات في التقدير حتى لا أقول أخطاء جسيمة، وهو ما ينطبق على ما يُعرف بحادثة "ملوزة".
وفي حالات ثالثة، كان المجاهدون يقومون بأسر "الحركى" ثم إطلاق سراحهم لاحقا، بهدف الدعاية الإعلامية لقدرات الثورة على ملاحقة الخونة، ورفع معنويات المواطنين.
وفي مواقف أخرى أكثر إيجابية، تمكنت بعض قيادات الثورة من التوظيف العسكري لـ"الحركى"، من خلال استيقاء المعلومات وتحصيل الدعم اللوجستي أحيانا من خلالهم.
وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و"البيّاعين" وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.
قضية "الحركى" في الجزائر إبّان فترة الاحتلال الفرنسي، واحدة من القضايا الساخنة التي ما تزال تصنع الجدل التاريخي والسياسي والإعلامي بين ضفتي المتوسط، وبعد نصف قرن من الاستقلال الوطني تبقى راسخة في الذاكرة الشعبية والجماعية، وتحتل مكانتها وسط المهتمين بالعلاقات الثنائية بين البلدين، تتضارب الأرقام والروايات، لتحتجب الحقيقة فوق طاولة اللعب بأوراق الماضي، ولا يبدو أن هذه الصفحة ستُطوى قريبًا، لأن فرنسا تسعى إلى هيكلة وتوريث "الفكر الحرْكي" لدى الأجيال الناشئة فوق أراضيها .
في السلسلة التالية تفتح "الشروق" دفاتر الملف الشائك، لتستنطق الحقيقة من أفواه صنّاعها وشهودها العدول، وإليكم نص الحوار الكامل بهذا الخصوص مع الرائد سي لخضر بورقعة .
نريد أن نعرف في البداية الأسباب التي دفعت بقطاع واسع من الجزائريين (الحركى) إلى أن يضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار ضد ثورة شعبهم، هل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية حينها يمكن أن تفسِّر لوحدها تلك الخيانة، أم أن هناك دوافع أخرى سياسية وأيدولوجية؟
أولا أوضح أن ثمة فرقاً في الاصطلاح التاريخي بين لفظين يُستعملان عادة للتعبير عن هذه القضية، وهما الحركى أو (الڤومية)، والبيّوعين أي (المخبرين)، فالشريحة الأولى تعني المسلحين الذين رافقوا قوات الاستعمار، وهي محلّ حوارنا الآن، أما الفئة الثانية فكانت تتكفل بمتابعة ومراقبة نشاطات المجاهدين والسياسيين، ثم تتولى التبليغ عنهم ورفع التقارير إلى الأجهزة الفرنسية.
ثانيا، أودّ أن نعرج سريعا على نشأة جهاز "الحركى" أصلا، كيف ظهرت هذه الشريحة بين الجزائريين، لقد كانت لفرنسا منهجيتها المتكاملة في التعامل مع الثورة، ولهذا بادرت منذ البداية إلى تأسيس قوى "الحركى"، والفكرة جاءت من خلال استقصاء فرنسا لأخبار المجاهدين، حيث كانت تنزل إلى القرى والمداشر وتسأل عمن تسميهم "الفلاڤة"، فيجيبها عملاؤها عن تحركات الثوار، وكيف يجندون ويأخذون المال والمؤونة من السكان بالقوة، وفق رواية المُخبرين، هذا الأمر جعل فرنسا تصنّف المواطنين إلى موالين ومعادين للثورة، فاقترحت على المتعاطفين معها والخائفين من بطشها أن تضع السلاح في متناولهم للدفاع عن أنفسهم ضد "الفلاڤة"، قبل أن يتحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى مجندين عسكريين في صفوف القوات الفرنسية ضد شعبهم، وهذه الخطة سمحت لفرنسا من جهة أخرى باكتشاف الفئات الموالية للثورة وهي التي رفضت أن تتسلح في وجه المجاهدين، ولكن تشكلت شريحة معتبرة بين الفريقين (الموالين والمعادين)، وهي التي تبدي تعاملا ظاهرا مع الاستعمار بفعل الضغوط الممارسة ضدها، بينما هي غير مقتنعة بذلك، وهؤلاء لم يكونوا في الحقيقة "حركى" ولا مُخبرين خالصين، لكن الظروف كانت أقوى منهم.
أما عن الأسباب فلا شك أن كلّ الدوافع التي تفضلت بها في سؤالك واردة لكن تبقى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية هي الأساس، لأن الشعب كان يعيش الفقر المدقع والاحتياج والخوف والجهل والبطش العسكري، في نفس الوقت، كانت هناك قطاعاتٌ عريضة غير مؤمنة بإمكانية نجاح الثورة، وبالتالي يرفضون الرهان على الفشل، وثمة جناح ثالث موالي قلبا وقالبا للاستعمار، أي مقتنعين عقديا وايديولوجيا بفرنسا وهم الأقلية.
كيف كان الجزائريون يتعايشون مع هؤلاء "الحركى" وهم يعيشون بين ظهرانيهم في القرى والمداشر والمدن، ويعرفهم العام والخاص؟
بكل تأكيد كان هؤلاء منبوذين من طرف عموم الشعب، وأفعالهم مستنكرة، لهذا وجدنا منهم من يتحلى بشيء من الحياء، فيغادر محلّ إقامته إلى منطقة أخرى حتى يتخفى ولا يُكتشف أمره، في حين فضّل "حركى" آخرون المكوث في قراهم ومداشرهم بهدف توفير الحماية لعائلاتهم والحفاظ على امتيازاتهم الخاصة مع الاستعمار، لكن لا تنسى أن الشعب الجزائري كان يعاني الأمرّين خلال الثورة، وكان الضغط النفسي والأمني شديدا جدا على السكان، ما دفع ببعضهم إلى تقبّل هؤلاء الخونة، بل كانوا يطلبون منهم قضاء حاجاتهم الشخصية والعائلية.
أنت كنت من رجال الميدان في الثورة، وتعرف عن قرب دور هؤلاء "الحركى" في دعم وإسناد الجيش الفرنسي، هل ترى أن تأثيرهم الفعلي قدّم "خدمة إستراتيجية" للاستعمار، وبالتالي قد أخّر حتى إنجاز الاستقلال؟
طبعا، فرنسا استفادت كثيراً من خدمات هؤلاء "الحركى" على المستويين العسكري والدِّعائي بصفة أكبر، فقد شكَّل الاستعمار من خلالهم حاجزا تجاه الثورة، وظفته الدعاية الفرنسية للتأثير في الرأي العام وتحطيم معنويات الشعب، عبر إبراز صورة وموقع "الحركى" إلى جانبها ضد مشروع التحرير، إلى درجة من التغليط والإشاعات يظهر معها أن نصف الشعب على الأقل كان رافضا لاحتضان الثورة المسلحة.
أما على الصعيد العملياتي، فقد كان للحركات المصاليّة المناوئة تأثيرٌ هائل على مسار الثورة، فقد انبثقت من رحم الوطنيين المصاليين 5 حركات مضادة للثورة، وتركزت في منطقة الوسط، وهي جماعة: كوبيس، الشريفي، السعيدي، بلونيس، ومصمودي، وقد استمرت تحركاتها السلبية إلى غاية وقف إطلاق النار، باستثناء حركتي بلونيس وكوبيس اللتين أجهضتا بعد تصفية زعيميهما.
وهذه الفصائل المناوئة من المصاليين هي التي كان لها تأثير سلبي في عمل الثورة، عشرات الآلاف من المجندين المهيكلين في صفوف الجيش الفرنسي من "الحركى"، وتسببت تلك الحركات في تأخير الاستقلال 3 سنوات على أقل تقدير، لأن فرنسا سعت من خلالها إلى إيجاد "تيار ثالث"، مستغلة في ذلك الجذور الوطنية لأفرادها، في إرباك المواطنين وهزّ قناعاتهم الثورية، بخلاف "الحركى" الذين كانت خيانتهم مكشوفة لا غبار عليها لدى السكان.
لقد كان من الممكن أن تحسم الثورة مشروع التحرير بعد 3 سنوات من انطلاقها، لكن تأثير هؤلاء المصاليين أوصل الثورة إلى المرحلة الثالثة التي تزامنت مع عودة دوغول إلى السلطة في فرنسا عام 1958، وقد كانت تلك الفترة (58-62) الأشد فتكا وقساوة، وعرفت سقوط 80_ من شهداء حرب التحرير.
ما دمت قد تحدثت عن المراحل، هل يمكن أن ترسم لنا "منحنى بيانيّا" عن تصاعد وتراجع "الحركى" مع سنوات الثورة؟
فيالق "الحركى" رافقت الثورة منذ البداية، لكنها عرفت ذروتها مع مجيئ ديغول في 13/05/1958، حيث رمى هذا الأخير بكل ثقله التاريخي والعسكري والسياسي لإجهاض الثورة، فعمد إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من "الحركى" في صفوف الجيش الفرنسي، وخطط بكل السّبل لخلق غطاء سياسي ومعنوي لإضفاء صبغة شرعية تعمي على علاقة هؤلاء بالاستعمار، من خلال ربطهم بالحركات المناوئة مثلاً، بدل أن يتجندوا مباشرة مع جيش الاستعمار، لكن الثورة كانت لها بالمرصاد، وركزت على وأد تلك الحركات المضادة لسحب البساط من تحت أرجل دوغول وأذنابه الخونة.
حتى مع نهاية الخمسينات حيث تقوّى عود الثورة وأصبح لها حكومة مؤقتة وحضور أممي، لم تتراجع وتيرة "الحركى".. لماذا؟
هذه المرحلة مثلما أكدت لك سابقا كانت الأعنف والأقسى على حياة الجزائريين عموما وعلى مسار الثورة خصوصا، فقد تجسدت خلالها سياسة ما يعرف بـ"الأراضي المحرَّمة" التي يُمنع فيها التواجد مطلقا، في المقابل، لم تكن الثورة في الداخل تملك وسائل إعلام للتبليغ والتواصل مع السكان، حتى أننا للوهلة الأولى، لم نصدِّق نحن القيادات الميدانية إعلان بن يوسف بن خدة عن وقف إطلاق النار في 19 مارس 62، وبالتالي الجزائريون في عمومهم لم يكونوا مواكبين للتطورات العسكرية للثورة، بل كان مفعول الإرهاب النفسي والاجتماعي والأمني شديدا على معنوياتهم، ومن ثمة بقي منحنى "الحركى" مرتفعا تقريبا حتى أواخر الثورة، مع أن البعض استيقظ ضميره وصحا من غفوته ليلتحق بصفوف الثورة إلى جانب شعبه وينال شرف المشاركة في حرب التحرير وإن متأخرا.
لو نتحدث بلغة الأرقام، وقد نظمت الثورة بشكل دقيق مع مطلع الستينات وحتى قبلها، هل كان لدى قيادات جيش وجبهة التحرير الوطني إحصاءات مضبوطة أو تقديرية، حول عدد "الحركى" غداة الاستقلال، لأن المتداول منها متضارب وفي عمومه فرنسيّ المصدر؟
بصراحة لم تكن هناك تقديراتٌ دقيقة لأن الملف كما أسلفت لك كان يُعالج بشكل محلّي، فقط ما كان متواترا لدينا أنهم في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّا أظن أن الرقم أكبر بكثير، شخصيا أعرف في إحدى مناطق الولاية الرابعة أن هناك 1500 حركي يتوزعون على 3 عروش فقط. وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و"البيّاعين" وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.
وفي ذات السياق، أريد أن أصحح مغالطات يروّجها البعض حول تمركز "الحركى" في مناطق وولايات بعينها، حتى أن مجاهدين كباراً ما فتئوا يرددون أن مناطقهم لم يوجد بها "حركى"، أقول إنّ مثل تلك الإشاعات والدعايات غير موضوعية وتنبع من حسابات تاريخية وعصبية مقيتة، والحقيقة أن كل المناطق حيثما وجدت فرنسا، كان هناك "حركى" وعملاء، لأن الظروف والضغوط والواقع نفسه، والإنسان هو الانسان.
على حد ذكرك لتراجع بعض "الحركى" عن موقفهم وانضمامهم إلى جيش التحرير الوطني، نودّ أن نعرف سياسة ومنهجية الثورة في التعاطي معهم؟
في الحقيقة لم تكن هناك سياسة موحدة أو منهجية مشتركة في التعامل مع "الحركى"، بل خضعت القضية للاجتهاد المحلي بحسب ظروف وخصوصيات كل ناحية، بل داخل كل ولاية كانت هناك توجهات مختلفة في معالجة حالات "الحركى"، لأن النظام الثوري بشكل عام لم يكن يخضع للقرار المركزي، بل منح لكل قائد حقّ استعمال سلطاته في نطاق الحيز الجغرافي، فالبعض لجأ إلى تصفيتهم ومطاردتهم بالقوة، في حين غضّ البعض الآخر الطرف عنهم وتفادى أسلوب المواجهة معهم، من باب العمل بأخفّ الضررين، حتى لا يسقط ضحايا أبرياء، أو نتسبب في تضييق الخناق أكثر على الثورة، وبالتالي كان التساهل معهم شفقة على الثورة بالأساس. في مقابل ذلك، وقعت بعض الهفوات في التقدير حتى لا أقول أخطاء جسيمة، وهو ما ينطبق على ما يُعرف بحادثة "ملوزة".
وفي حالات ثالثة، كان المجاهدون يقومون بأسر "الحركى" ثم إطلاق سراحهم لاحقا، بهدف الدعاية الإعلامية لقدرات الثورة على ملاحقة الخونة، ورفع معنويات المواطنين.
وفي مواقف أخرى أكثر إيجابية، تمكنت بعض قيادات الثورة من التوظيف العسكري لـ"الحركى"، من خلال استيقاء المعلومات وتحصيل الدعم اللوجستي أحيانا من خلالهم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى